مدة القراءة: 7 دقائق

بقلم: عبد الرحمن فرحانة (خاص بمركز الزيتونة).

أولاً: معطيات البيئة السياسية والاستراتيجية

–  في الأفق الدولي: يتزايد انحسار النفوذ الأميركي، بل يتعداه إلى حد فقدان السيطرة، كما هو الحال في صورة الدور الأميركي تجاه الثورات العربية. يرافق ذلك تعاظم ضعف الدور الأوروبي بسبب الأزمة الحادة التي ضربت دول الاتحاد الأوروبي. وهو مناخ يوفر فرصاً للقوى الفاعلة (حكومات أو حركات) في المنطقة لتعزيز مكانتها ودورها.

–  في الأفق الإقليمي: تسود صورة الربيع العربي وتداعياته الكبيرة التي تؤشر لصالح صياغة ايجابية جديدة للإقليم، مما يتيح مستقبلاً فرصاً للقضية الفلسطينية، خصوصاً في المدى المتوسط.

–  في الأفق الصهيوني: ما زال اليمين المتطرف يحكم، والحالة اليمينية تزداد اتساعاً في المجتمع الصهيوني. وتعاني دولة الكيان الصهيوني من تعقد البيئة الاستراتيجية من حولها وتطورها لغير صالحها، مع زيادة فقدان للشرعية في الوسط الغربي، وزيادة ضعف الردع والقدرة على الحسم على صعيد القوة العسكرية، وسياسياً لا قدرة أو رغبة للتساوق مع متطلبات التسوية، يرافق ذلك عجز عن فرض الخيارات السياسية بالقوة لزيادة القيود على تحركات الجيش الصهيوني بسبب التحولات القائمة.

–  في الأفق الفلسطيني:

أ.  انسداد أفق التسوية، وتآكل حل الدولتين، وصعوبة الخيارات الأخرى في ذات السياق، وعدم اليقين بجدواها.
ب.  جمود فاعلية المقاومة، فهي مكبلة في غزة، ومسحوقة في الضفة.
ج.  المشهد الفلسطيني منقسم، وبلا رؤية أو استراتيجية وطنية موحدة، والحركة الوطنية الفلسطينية متناقضة في الأهداف واستراتيجيات العمل.

المعطيات تؤشر:

–  زيادة ضعف التأثير الدولي وبوادر تحسن الأفق الإقليمي، مما يمنح فرصة لتحرك فاعل نسبياً لملء الفراغ السياسي المحلي.
–  الأفق الصهيوني يؤشر على علامات ضعف وتراجع نسبي على الصعيد الاستراتيجي، بسبب الثورات العربية. مما يعزز الفرصة المتاحة.
–  الأفق الفلسطيني منقسم ومأزوم بلا رؤية واستراتيجية مشتركة، ويعيش حالة فراغ سياسي، والمنطق السياسي يفرض إشغاله بفعل فلسطيني فاعل وموحد.

ثانياً: المسارات الاستراتيجية المتاحة للحركة الوطنية الفلسطينية

اتكاء على المعطيات القائمة في المشهد العام فأمام الحركة الوطنية الفلسطينية المسارات التالية:

–  المسار الأول: تشكيل جبهة مقاومة عبر العمليات المسلحة تصاعدياً، أو من خلال تفجير تحرك شعبي في الضفة ضد الاحتلال بهدف إنهاء حالة أوسلو، وبناء قاعدة وقيادة مقاومة.

–  المسار الثاني: محاولة إعادة تشكيل النظام السياسي الفلسطيني، والسعي لإيجاد قيادة فلسطينية تتحرك على قاعدة الشراكة وبناء على استراتيجية وطنية توافقية موحدة على قاعدة القواسم المشتركة، تتضمن توافقاً على الثوابت والمرجعية وبرامج وآليات العمل.


–  المسار الثالث: الانتظار حتى يستقر الوضع نسبياً في دول الربيع العربي وخاصة في الدول المركزية كمصر وسوريا.

كما يبدو فإن التحولات في البيئة الإقليمية لم تكتمل بعد، وبعض الأنظمة في المنطقة حالياً تعيش في حالة سيولة كبيرة. ويظهر أن ظلال التأثير الدولي ما زالت باقية. وكذلك تبدو المعادلة الفلسطينية في الداخل غير ناضجة حتى الآن لخيارات التصعيد، فالبيئة الحالية قد تكون غير مناسبة للمسار الاستراتيجي الأول في المدى القريب، لكنها قد تنضج في المدى المتوسط. وفيما يتعلق بسيناريو الانتظار فهو ليس خياراً سياسياً فاعلا بحد ذاته.

في ضوء ذلك كله؛ ربما من الأفضل للحركة الوطنية الفلسطينية أن تتحرك في إطار المسار الاستراتيجي الثاني، نظراً للأسباب القائمة، ولتهيؤ المعادلة الفلسطينية لمثل هكذا خيار نسبيا. مع وجود تحديات وعقبات في طريقه بطبيعة الحال.

وهي فرصة للحركة الوطنية الفلسطينية لتفكيك تناقضها من خلال التوافق على استراتيجية ترتكز على القواسم المشتركة بين أطرافها. بهدف مواجهة العدو الرئيس، وترك الصراعات البينية التي تنهك القوى الوطنية، وتوجد للعدو مساحة سياسية، ووقتاً لقضم الأرض وهضمها، وحجز الفلسطينيين في معازل ديموغرافية.

ثالثاً: الأسس المحددة للاستراتيجية الوطنية

–  تعزيز الأسس الديمقراطية في كل مكونات النظام السياسي الفلسطيني.
–  الحالة الفلسطينية هي حالة تحرر وطني لم تصل لدرجة الدولة بعد، ومن حق الشعب الفلسطيني في مناطقه الثلاث: الـ (48)، والضفة والقطاع، والشتات المشاركة في صياغة مصيره.
–  فلسطين ظهيرها الاستراتيجي هو العمق العربي والإسلامي.
–  القضية الفلسطينية قضية إنسانية، فهي قضية شعب في حالة تحرر وطني ينشد العدالة، واستعادة حقوقه الوطنية.
–  يحق للشعب الفلسطيني، باعتباره تحت الاحتلال، أن يمارس كافة وسائل المقاومة لإزاحة الاحتلال، لتحقيق استقلاله وتقرير مصيره.
–  وحدة الشعب والوطن والقرار السياسي الفلسطيني.

رابعاً: متطلبات الاستراتيجية

–  توافر الإرادة السياسية من قبل الأطراف المشاركة للتوافق على القواسم المشتركة، والعمل على قاعدة الشراكة.
–  مراجعة خيار التسوية الذي بدأ نظرياً منذ إعلان الاستقلال عام 1988، والنقاط العشر عام 1977 قبل ذلك، ومورس عملياً بعد مؤتمر مدريد وحتى الآن؛ لفتح خيارات أخرى سواه.
–  التوافق على شكل وتكتيكات المقاومة كأداة قوة استرايجية للضغط من خلاها لتحصيل الحقوق الفلسطينية.
–  بناء حركة وطنية فلسطينية في سياق جديد، وتجديد النظام السياسي الفلسطيني على قاعدة الشراكة، وفق أسس ديمقراطية.
–  توافق على منظومة الثوابت الفلسطينية والتزامها كمعايير ثابتة ومحكمة في توجيه وتصويب الحراك السياسي الفلسطيني.
–  تعزيز الوحدة الوطنية وتعبئة وتفعيل الشعب الفلسطيني في إطار خطة تحرر وطني موحدة (برنامج وطني موحد)، وفق معايير قياس ثابتة لتصويب العمل وإعادة التوجيه.
–  تفعيل دور الظهير الاستراتيجي العربي والإسلامي، واستثمار التحولات الجارية في المنطقة العربية.
–  حشد حركة التضامن الدولية ونزع الشرعية عن دولة الاحتلال.

خامساً: أهداف الاستراتيجية

–  حماية حقوق وثوابت الشعب الفلسطيني.
–  تمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في المقاومة المشروعة عبر تكتيكات وأشكال يتم التوافق عليها وفق مروحة من الوسائل بلا استثناء
–  تمكين الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره، وبناء دولته المستقلة كاملة السيادة، مع عودة اللاجئين، وإطلاق سراح كافة الأسرى.

سادساً: أبرز مكونات الاستراتيجية

من الضروري أن تعالج الاستراتيجية المفردات التالية:

–  المضامين الأساسية للاستراتيجية – التوافق على توجهات واضحة تجاه العناوين الأساسية وخاصة تلك التي محل الخلاف.
–  تحديد آليات عمل القيادة وفرزها والرقابة عليها.
–  معالجة إدارة السياق الدولي والإقليمي.
–  التوافق على صيغ المقاومة وأشكالها.
–  توحيد الخطاب.
–  العدو وكيفية التأثير في استراتيجيته المعادية.
–  التوافق على معايير قياس ثابتة لتقويم العمل وتصويبه.

وباختصار تتطلب الاستراتيجية الجديدة تحديد: منهج العمل وتحديد الأولويات وآلية عمل القيادة وصناعة القرار وطبيعة البرنامج السياسي. والمدخل الصحيح لذلك؛ التوافق على الثوابت، والتوافق على المرجعية، وكذلك اعتماد برنامج وطني موحد، وتحييد استراتيجية العدو.

سابعاً: منهج العمل وتحديد الأولويات:

  يستوجب مراجعة المواقف تجاه عناوين أساسية والتوافق بشأنها مثل:

–  التسوية: ينبغي مناقشة ما يجري، هل هو تسوية حقيقية؟ أم هي إملاءات من القوى تجاه الضعيف بسبب اختلال ميزان القوى. وهل يجوز إفراد خيار التفاوض وتحييد المقاومة (أوراق القوة)؟ وما نتيجة هذه الممارسة طوال عقدين؟

يفترض في نهاية المطاف التوافق على أن الحالة الفلسطينية هي حالة تحرر وطني ومن مستلزماتها ممارسة المقاومة. بل في الوقت الراهن يلزم اعتمادها كخيار أساس لتعديل ميزان القوى المختل، وباعتبارها أدارة استراتيجية للضغط على العدو.

–  المقاومة: هي أداة القوة الاستراتيجية بيد الفلسطينيين، ولا ينبغي بأي حال تحييدها من قبل الأجهزة الأمنية بحجة الالتزامات الدولية. ويلزم التوافق على أي الأشكال أجدى في اللحظة الراهنة سواء عبر العمل العسكري أو المقاومة الشعبية. ويقترح البدء بالثانية باستلهام الأدوات والوسائل المستخدمة في الثورات العربية، وتطويرها تصاعدياً للوصول للعمل العسكري بحسب ما جرى في انتفاضة الأقصى.

–  السلطة: تحديد علاقتها بالمنظمة بشكل واضح، وإعادة الهيمنة عليها من قبل منظمة التحرير بشكل فعلي. وينبغي تقرير موقف واضح تجاهها الآن. وهنالك ثلاث سيناريوهات لمستقبلها:

‌أ.  بقاء الحال على حاله، وهذا سيناريو غير مرغوب، لأنها في شكلها الحالي مجرد نموذج “لحدي” موسع.

ب.  اعتبارها نواة دولة والعمل على تقويتها وتحريرها من هيمنة المال الغربي، واعتبارها أداة وطنية لإدارة تحرك شعبي منظم وشامل لمقاومة الاحتلال.

ج.  حل السلطة، وتشكيل إدارة وطنية تشاركية في إطار مقاومة مسلحة منظمة بهدف إزاحة الاحتلال.

ويمكن اعتماد الخيار الثاني في الاستراتيجية الجديدة باعتبارها اقرب إلى تفكير ومصالح الأطراف المتصلة بالتسوية.

–  المصالحة: هي مفتاح الوحدة الوطنية، وضرورة لتوحيد وتكتيل الجهد الوطني، لكنها ينبغي أن تتم بإرادة فلسطينية محضة وبلا تدخلات خارجية. ومن الضروري الدخول فيها وفق جدول زمني محدد؛ بعد التوافق على الاستراتيجية الوطنية الموحدة والبرنامج الوطني المعتمد.

–  غزة: العمل على فك الحصار عن غزة كهدف وطني، وربما اعتمادها كمنطقة شبه محررة وإدارتها إدارة وطنية تشاركية، والضغط على العدو لفك الحصار أو استئناف ضرب الصواريخ، خاصة أنه غير قادر على الحرب حالياً بسبب الوضع المصري الراهن.

–  الأمن الوطني: ينشأ على أساس عقيدة أمنية وطنية، ويحرم التنسيق مع الاحتلال تحت أي ظرف كان. وتشكل الأجهزة الأمنية وفق أسس مهنية وطنية، على أن تكون مرجعيتها للقيادة السياسية الفلسطينية المنتخبة.

  منظمة التحرير:

أ.  هي المرجعية السياسية، والمهيمنة على السلطة الفلسطينية.
ب.  ينتخب عناصرها من كافة الشعب الفلسطيني بناء على نظام انتخابي يتم التوافق عليه.
‌ج.  المجلس التشريعي جزء من مجلسها الوطني.
د.  ولايتها السياسية تداولية، وتتغير قيادتها وفق الأسس الديمقراطية.
ه.  جهازها التنفيذي خاضع لمجلسها الوطني.
و.  التوافق على ميثاقها الجديد.

ثامناً: ضبط صناعة القرار وتحديد المرجعية

–  الشراكة قاعدة أساسية في العمل الوطني.
–  القيادة تنتخب وفق أسس ديمقراطية ويلزم احترام مخرجاتها من قبل كافة الأطراف.
–  القيادة في إطار منظمة التحرير هي المرجعية السياسية، لكنها خاضعة لمراقبة ومحاسبة المجلس الوطني المنتخب من الشعب الفلسطيني على أسس صحيحة.
–  الاتفاق على معايير لقياس الأداء، وتشكيل هيئة لتحقيق ذلك.

تاسعاً: التوافق على البرنامج الوطني المعتمد

بعد التوافق على الاستراتيجية الوطنية الموحدة، يتم التوافق على البرنامج الوطني المعتمد، الذي من المفترض أن تلتزم كافة القوى السياسية الفلسطينية بتنفيذه. وفق جدول زمني متفق عليه، وتحت رقابة هيئة تابعة للمجلس الوطني الفلسطيني المنتخب.

عاشراً: تحييد استراتيجية العدو المضادة

من المكونات الأساسية للاستراتيجية أن تتضمن خطط ووسائل لتحييد استراتيجية العدو وتعطيل تأثيرها على الوسطين الفلسطيني والعربي. ومن ضمنها السعي الحثيث لإضعاف تواصل العدو مع الأنظمة الجديدة في المنطقة التي هي في إطار التشكل.

حادي عشر: مسارات العمل الفلسطيني الأساسية:

–  مسار التفاوض: من المفترض إعادة النظر في هذا المسار لأنه قد تم تجريبه لمدة عقدين دون جدوى، ومن المنطقي البحث عن خيارات أخرى ذات جدوى على أسس توافقية. – خيار مستهلك-.
–  مسار المقاومة وحل السلطة وتشكيل إدارة وطنية في كل من الضفة الغربية وغزة، بهدف إزاحة الاحتلال – خيار متاح نسبياً-.
–  مسار الإبقاء على السلطة وتقويتها وتخليصها من ارتهان المال الغربي، وتحويلها كأداة وطنية لإدارة مقاومة شعبية في الضفة الغربية – خيار متاح أكثر-.
–  مسار المزج بين الخيارات كلها عبر برنامج وطني توافقي – خيار ممكن مع إعلاء السقف من قبل بعض الأطراف-.

ثاني عشر: آليات التنفيذ:

–  الوحدة الوطنية على قاعدة الشراكة وتداول القيادة على أسس ديمقراطية.
–  تكتيل الشعب الفلسطيني في أماكن تواجده في برامج عمل بحسب خصوصيات كل ساحة.
–  إدارة العلاقة مع السياق الدولي والإقليمي بشكل فاعل.
–  توحيد الخطاب الوطني.
–  اعتماد استراتيجية إعلامية موحدة.

الخلاصة:

تشكل البيئة الراهنة المتمثلة بالحراك العربي الذي اضعف القيود الإقليمية على القرار الفلسطيني نسبياً، بالإضافة لمأزق الكيان الصهيوني وتعقد بيئته الاستراتيجية، وكذلك تراجع ضغط العامل الدولي نسبياً، يشكل كل ذلك ملامح فرصة مواتية كي تبادر الحركة الوطنية لتفكيك تناقضها الرئيس (مقاومة – تسوية) باتجاه التوافق على استراتيجية وطنية فلسطينية موحدة على قاعدة القواسم المشتركة بين مكوناتها.

الفرصة يمكن تطويرها في أفق سياسي أوسع؛شريطة أن تصدق النيات، وأن تتحرر الإرادة السياسية الفلسطينية من كل الارتهانات. فالبيئة الإقليمية مناسبة لتثمير تفاعلات الفعل الفلسطيني، وستكون مساندة له بشكل أكثر مما مضى؛ في ظل تحرر الإرادة الشعبية للجماهير العربية.

ومن الضروري أن تدرك أطراف الحركة الوطنية الفلسطينية أن الفرصة سانحة ولا ينبغي تفويتها، كما أن الانتظار ليس خياراً فاعلاً في ظل الإدراك الذي ينبغي أن يستقر في الوعي الوطني، وهو أن ليس بمقدور أي طرف أن يلغي الآخر، وفي ذات الوقت لا يمكن لأي طرف أن يفرض أجندته السياسية على الجميع إلا في ظل التوافق، وقد أثبت المسرح السياسي هذه النظرية.

المسؤولية الوطنية راهناً تحتم سرعة التوافق على القواسم المشتركة في ظل المعادلة القائمة، لأن التلكؤ يضيع الفرصة السانحة، ويمنح العدو المساحة والوقت لاستثمار الانقسام لتدمير المشروع الوطني الفلسطيني.

هذه الاستراتيجية ومثيلاتها الداعية للتلاقي على القواسم المشتركة تتضمن الحد الأدنى لتحرك العمل الوطني الفلسطيني بشكل جاد وفاعل. وعلى من يرفض الحد الأدنى ويظل مستمسكاً بأجندته الخاصة أن يعلن ذلك صراحة، وبالتالي على الشعب الفلسطيني أن يقف في وجه من يعارض مصالحه الوطنية. والصمت هنا ليس فضيلة، لأن الوقت يضيع، والحقوق تتبدد.

مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 1/2/2012