مدة القراءة: 6 دقائق

بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

تساءل الفتى عماد (12 عاماً) مستغرباً، عندما رأى أمه تجهز بعض الشطائر لتناولها أثناء المسيرة التي تزمع العائلة المشاركة فيها يوم 15/5/2011، إلى حدود فلسطين المحتلة مع جنوب لبنان “لماذا الطعام؟ لن يكون لدينا وقت لتناوله، ألسنا ذاهبين اليوم لنستشهد في فلسطين؟”

الرسالة التي حملها هذا الفتى وأمثاله، أعطت لذلك الحدث طعماً مختلفاً، فقد شكلت مسيرات العودة الحاشدة التي اتجهت إلى حدود فلسطين المحتلة سنة 1948 (أو ما صار يُعرف بـ”إسرائيل”) علامة فارقة في التعامل الفلسطيني مع ملف حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم.

مسيرات العودة نقطة تحول:

الجموع التي خرجت في وقت واحد في لبنان وسوريا والأردن والضفة الغربية وقطاع غزة، والشهداء الذين ارتقوا وهم يحاولون اختراق السياج الحدودي، عبروا عملياً عن ثلاثة مؤشرات مهمة:

الأول: تحويل قضية حق العودة من قضية نظرية إلى برنامج عملي، والانتقال من التحدث عنه بطريقة عاطفية أو قانونية إلى سلاح يفرض نفسه على الأرض. وربما أعطى ذلك رسالة طمأنة للدول المضيفة القلقة من موضوع التوطين، أن اللاجئ الفلسطيني متمسك بأرضه، وأن بقاءه مرهون فقط بإمكانية عودته.

الثاني: انتقال قضية العودة إلى الجيل الثالث من اللاجئين، بشكل قوي وحيوي، يؤكد أن هذه القضية لم ينسها أصحابها، بل إنهم باتوا أكثر استعداداً للموت في سبيلها، وفي استخدام وسائل وأدوات جديدة مؤثرة، وإن كانت مُكلّفة، لم يستخدمها حتى آباؤهم وأجدادهم. كانت الأعداد الكبيرة المشاركة من فئة الشباب العمرية رسالة قوية وحاسمة، فقد مثلت الأغلبية الواسعة للمشاركين، وقدَّمت كل الشهداء والجرحى تقريباً. لم يحصل ما تمناه قادة الكيان الصهيوني أن “الكبار سيموتون، وأن الصغار سينسون”. وبقدر ما أنعشت هذه الرسالة آمال المعنيين بحق العودة، بقدر ما أصابت الجانب الإسرائيلي بالقلق والإحباط.

الثالث: أن مركز الثقل في العمل الوطني الفلسطيني تحوَّل منذ سنة 1987 (منذ بدء الانتفاضة المباركة) إلى الداخل الفلسطيني، واستمر كذلك حتى الآن؛ بعد أن كان متركزاً بشكل أكبر خارج فلسطين.

غير أن المسيرات الأخيرة تعطي مؤشرات جديدة على إمكانية عودة الحيوية لدور فلسطينيي الخارج، في تبني برامج والقيام بأعمال كانت في نطاق ما هو محظور ومستبعد طوال الأعوام الخمسة والعشرين الماضية.

ولعل ما يعين على ذلك، حالة التحول التي يشهدها العالم العربي، والتي قد تفتح آفاقاً إما لتوفير فضاءات إستراتيجية مؤيدة للمقاومة أو مؤيدة لتفعيل برامج حق العودة؛ كما قد ترتخي قبضات الأنظمة على الحدود مع الكيان الإسرائيلي (راغبة أو راغمة) بسبب سياساتها الجديدة أو بسبب مشاكلها الداخلية.

حق العودة:

أن يعيش الإنسان في بيته وعلى أرضه وبحرية وكرامة، هو إحدى البديهيات والمسلمات التي يُجمع عليها البشر على كافة أديانهم وأجناسهم، كما تجمع عليها الشرائع والقوانين الدولية. وهو حق تتم ممارسته بشكل طبيعي لا يقبل النقاش في كل مكان في الكرة الأرضية. ويشكل حرمان الفلسطينيين من حقهم في العودة إلى بيوتهم وأرضهم الوضع الشاذ الوحيد في العالم.

ومشكلة اللاجئين الفلسطينيين هي الأقدم من ناحية قضايا اللاجئين التي لم تُحل حتى الآن، فهي تعود إلى سنة 1948. وفي الوقت الذي يستطيع فيه الروانديون والأرمن والأفغان والبوسنيون العودة إلى منازلهم، فليس بإمكان اللاجئ الفلسطيني العودة بعد مرور نحو 63 عاماً على تشريده.

وقضية اللاجئين الفلسطينيين هي الأكبر من ناحية عدد اللاجئين قياساً بمجموع الشعب؛ إذ يقيم خارج فلسطين التاريخية نحو خمسة ملايين و750 ألف لاجئ، كما يقيم في الضفة الغربية وقطاع غزة نحو مليون و800 ألف لاجئ من فلسطينيي 1948، أي نحو سبعة ملايين و550 ألفاً من أصل 11 مليوناً و 100 ألف هم مجموع الشعب الفلسطيني في مطلع سنة 2011، أي أن أكثر من ثلثي الشعب الفلسطيني هم من اللاجئين. ومأساة اللاجئين من جهة ثالثة هي الأكثر، من بين كل القضايا، التي حصدت قرارات دولية من الأمم المتحدة تؤيد حقهم في العودة. فمنذ صدور قرار رقم 194 وحتى الآن، تم تأكيد هذا القرار بقرارات متجددة وبأشكال مختلفة أكثر من 120 مرة. وهو حق العودة لفلسطين المحتلة سنة 1948، وليس متعلقاً بالضفة والقطاع فقط.

هذا الحق بكل ما فيه من قوة وبساطة ووضوح وإجماع هو حق مُعطَّل بسبب غطرسة القوة التي يمارسها الإسرائيليون، وبسبب الدعم الأميركي والغربي للموقف الإسرائيلي، ولأنه يتم التعامل معهم كدولة فوق القانون. لم تهتز شعرة لدى الإدارة الأميركية عندما نفذت العصابات الصهيونية 34 مذبحة وقامت بتهجير أكثر من 800 ألف فلسطيني (من أصل مليون و390 ألف فلسطيني) سنة 1948 قسراً من أرضهم. ولم تنشغل أميركا وحلفاؤها طوال الفترة الماضية بتطبيق أي من شعاراتها وقيمها المرتبطة بحقوق اللاجئين، ولم تكن معنية بحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، بقدر ما كانت معنية بحل مشكلة الإسرائيليين في مواجهة استحقاق حق العودة.

المنطق الإسرائيلي يتحدث عن أن تطبيق حق العودة سيعني نهاية المشروع الصهيوني وفقدان “إسرائيل” صفتها اليهودية، وأنه لا معنى لتنفيذ مشروع تسوية سلمية إذا أصرّ الفلسطينيون على هذا الحق. ولكن هل كان هناك أي منطق عندما كان يأتي مهاجرون يهود من أشتات الأرض تحت حماية البنادق البريطانية، ليقيموا في فلسطين غصباً عن أهلها وليتضاعف عددهم 13 مرة (من 50 ألفاً سنة 1918 إلى 650 ألفاً سنة 1948). وهل كان هناك منطق في اقتلاع شعب فلسطين وتهجيره من أرضه التي عاش فيها أكثر من 4500 عام، ليحصل اليهود على غالبية مزورة ممهورة بدماء وأشلاء الفلسطينيين. وهل المنطق أن يحرم الفلسطينيون من مجرد حق العودة (كأي مدنيين يعودون لمساكنهم بعد انتهاء الحرب) لمجرد أن المشروع الصهيوني فشل في توفير أغلبية يهودية، هذا إذا سلمنا جدلاً “بحق” هؤلاء اليهود في الهجرة والإقامة في فلسطين؟

السياج وما بعد السياج:

المسيرات التي حدثت في 15/5/2011 لم تتميز فقط بمشاركة شبابية واسعة، وإنما بمشاركة كافة الفئات العمرية، وبمشاركة اللاجئين في عدد من الأقطار والأماكن في وقت واحد، وباتساع نسبة المشاركة. وربما كان أبرز ما فيها هو ما لم يخطط له منظموها، وهو اختراق السياج الحدودي، ورفع العلم الفلسطيني عليه.

في لبنان تجاوز عدد المشاركين ثلاثين ألفاً، ووفق تقديرات بعض منظمي المسيرة فإن العدد وصل إلى نحو 55 ألفاً، بينما لم يستطع الآلاف القدوم لعدم توفر وسائل المواصلات. والمعنويات كانت عالية قبل المسيرة وأثناءها وبعدها، بالرغم من أن معظم المشاركين ساروا على أقدامهم من خمسة إلى 16 كيلومتراً (وبينهم أطفال ونساء وشيوخ).

تُرى؟ هل انكسر بُعبع الحدود؟ وتعرَّت “القدسية” المزورة للأسيجة التي تحيط بفلسطين؟ وهل وضع الفلسطينيون يدهم على سلاح كانوا يخشون استخدامه لسنوات طويلة، ربما لسبب قسوة الأنظمة العربية (المتباكية على حق العودة والمرعوبة من التوطين)، إلى جانب السلوك المنتظر من الإسرائيليين.

كسر الفلسطينيون السياج، وانكسر جدار الخوف الذي بنته “إسرائيل” كما بنته الأنظمة العربية. وتحقق انتصار معنوي. ولكن بقي السؤال قائماً فهل كان الأمر مجرد موقف؟ أم أنه سيتحول إلى برنامج عمل؟

إنه سؤال ما بعد السياج. فهل يمكن تحقيق تعبئة جماهيرية واسعة، تستخدم “سلاح الجموع” تخترق الحدود وترفض الخروج تنفيذاً لحق طبيعي في العودة يلقى الدعم الشعبي والقانوني العالمي؟ وتضع موضوع اللاجئين سياسياً وإعلامياً على نار ساخنة؟

وإلى أي مدى ستوغل “إسرائيل” في دماء الفلسطينيين المُصرِّين على العودة؟ وهل يمكن الاستفادة من تجربة مبعدي مرج الزهور الـ 415 الذين أبعدتهم “إسرائيل” أواخر 1992، ولكنهم بصمودهم وثباتهم وإصرارهم على البقاء على الحدود، كسبوا المعركة السياسية والمعركة الإعلامية، كما كسبوا معركة حقهم في العودة إلى فلسطين فعادوا بعد نحو سنة من إبعادهم؟!

ليس الأمر مجرد تفكير رغائبي وأحلام يقظة، ولكن من حق اللاجئين، الذين تمّ تضييع وتجاهل قضيتهم لأكثر من ستين عاماً، أن يفكروا من خارج “الصندوق”، وأن يخرجوا عن الإطار التقليدي للمبادرات والمواقف التي هي أقرب للمُسكِّنات، منها إلى حلول فعالة جادة.

قلق إسرائيلي:

الجانب الإسرائيلي عبَّر عن قلقه وارتباكه من مواجهة مسيرات مشابهة لتلك التي حدثت يوم 15/5/2011. واعترف بالأثمان الباهظة التي يمكن أن يدفعها إذا ما أصرَّ على استخدام قوة السلاح في منع جموع الفلسطينيين من كسر السياج الحدودي؛ وهي أثمان تحمل تبعات سياسية وإعلامية وقانونية كبيرة.

والفلسطيني الذي يصرّ على العودة وبيده صك ملكية أرضه (الكوشان) ومفتاح بيته، يعيد طبيعة الصراع مع المشروع الصهيوني إلى جوهره، ويكشف أن الأمر ليس مجرد اختلاف على حدود 1967، وأن القضية تكمن في ذلك الإنسان الذي جرى اقتلاعه وتهجيره وتهميشه وحرمانه من أبسط حقوقه، فضلاً عن أنها تكشف عن الوجه القبيح لكيان غاصب قائم على شقاء الفلسطينيين وآلامهم. ولذلك، لم يبتعد موشيه يعلون، وزير الشؤون الإستراتيجية في الحكومة الإسرائيلية، كثيراً عن الحقيقة عندما قال إن أحداث النكبة في داخل “إسرائيل” وعلى حدودها تثبت أن الصراع ليس على حجم “إسرائيل”، وإنما على وجودها. كما أن القائد العسكري الإسرائيلي للمنطقة الشمالية قال إن ما حدث هو مقدمة لأحداث مستقبلية، وأن المهلة المتبقية لاستخلاص العبر قصيرة جداً.

احتمالات مستقبلية:

يظهر أن الفلسطينيين أمام ثلاثة احتمالات للتعامل مع الحدث:

1- الاكتفاء بما جرى في 15/5/2011 واعتباره نقطة مضيئة، وموقفاً جريئاً، يضاف إلى مواقف وتاريخ الشعب الفلسطيني في الصمود والنضال.

2-
التأسيس لعملية تسخين سياسي منهجي واعٍ، يلتقطها الشباب الفلسطيني والفصائل الفلسطينية لابتكار وسائل ضغط سياسية وإعلامية وقانونية جديدة في مجال حق العودة.


3-
تجاوز حدود “المعقول” أو “المعتاد” حتى الآن، والاندفاع باتجاه عملية تجييش شعبي في مناطق اللجوء، وخارج الحسابات التقليدية، لتسعى جموع اللاجئين لفرض واقع جديد من خلال كسر السياج أو على الحدود، بحيث تصبح القضية محط أنظار العالم، ولا يمكن تجاوزها. وهو أمر مرتبط أولاً بارتخاء القبضة الأمنية العربية على الحدود، قبل غيره من الأمور.

التوظيف والاستثمار:

لن يخوض هذا المقال كثيراً في اللغط الذي حدث حول الاستثمار السياسي الذي حاولت بعض الأطراف تحصيله من خلال السماح للاجئين بتنفيذ المسيرات، خصوصاً في لبنان وسوريا. فحتى لو كان هناك استفادة سياسية تحققها هذه الأطراف فإن ذلك لا يعني الاندفاع باتجاه إلغاء المسيرات، إذ أن المكاسب التي يحققها اللاجئون أنفسهم هي أكبر بكثير مما يحققه أي طرف آخر، وأن نقاط الاتفاق والتقاطع مع أية قوى ينبغي أن تكون محفزاً للعمل، لا سبباً في تعطيله. ولتتفضل السلطات على الحدود الأخرى مع “إسرائيل” فتسمح للاجئين بتنفيذ برامجهم، و”مبروك” عليها المكاسب السياسية التي ستحققها!! ما دام الأمر جزءاً من نضال اللاجئين، وليس بالضرورة جزءاً من برامج الأنظمة.

المهم أن يتم تسخين موضوع حق العودة، وأن يتم قطع الطريق على من يريد إلغاءه أو تضييعه. وحتى لا تكون المسيرات وبرامج حق العودة عرضة للتضييع أو التوظيف السياسي والإعلامي غير الصحيح، فإن الواجب يقتضي أن تتم مأسسة هذه التحركات والبرامج، وأن يتم تنفيذها وفق رؤية واعية موضوعية وجريئة. وأن يتم إعطاء أكبر حرية ممكنة للشباب لأخذ زمام المبادرة، والخروج عن النسق التقليدي المقولب لهذه البرامج.

ولتكن الإجابة للفتى عماد أننا لن نذهب فقط لنستشهد في فلسطين، وإنما لننتصر في فلسطين.

المصدر: موقع الجزيرة نت، الدوحة، 6/6/2011