مدة القراءة: 16 دقائق

بقلم: ألاستير كروك، دبلوماسي بريطاني، مؤسس ومدير منتدى الصراعات.

(النسخة العربية خاصة بمركز الزيتونة).

في سنة 2003، أدركت أن شيئاً ما قد تغيّر؛ فقد فتح باب الغرفة التي كنت أجلس فيها، ودخل شخص كان يرتدي معطفاً أسود ولفحة؛ وكان من الواضح أنه كان متحفزاً للكلام، فاندفع معبراً عن النجاح الذي كان يريد أن يشاركنا فيه. كنت وقتها في شارع داونينغ ستريت Downing Street ،  مقر الحكومة البريطانية، في غرفة كان يشغلها مستشار أعضاء البرلمان للشؤون الخارجية في ذلك الوقت، السير ديفيد مانينغ David Manning، والشخص ذو المعطف الذي اقتحم الاجتماع، كان جاك سترو Jack Straw، وكان وقتها يريد أن يخبر مانينغ بأنه أقنع وزيرا الخارجية الألماني، يوشكا فيشر Joschka Fischer، بدعم حظر حركة حماس، وإضافتها إلى قائمة الاتحاد الأوروبي للمنظمات الإرهابية؛ وكان حدثيه مفعماً بتعبيرات الاستياء والغضب من الحركة.

شعرت حينها بالصدمة، ولم يكن حظر حركة حماس هو ما صدمني لهذه الدرجة، بل انهيار وقف إطلاق النار الذي كنت قد ساعدت حينها في تسهيله، وكنت أدرك حينها أن أمامنا أوقاتاً صعبة. كانت الحماسة التي تابع بها سترو مهمته هي الجديد في الأمر، لا أعلم بما فكر السير ديفيد، ولكن لا بد أنه كان يدرك، كما أدركت أنا، أن قائمة الإرهاب كانت من الأشياء التي قد يكون الخروج منها مستحيلاً، وأن النتائج المترتبة على ذلك بالنسبة للدبلوماسية وصناعة السلام كانت عميقة، ولكن لم يكن هناك ما يشير إلى أن سترو قد أخذ هذه الأمور بالحسبان في غمرة نشوته بما تحقق.

كنت أعلم عن السير ديفيد أنه كان يعتقد بقوة أنه لا يمكن أن يكون هناك حل للقضية الإسرائيلية الفلسطينية دون مشاركة حماس. وكان حتى ذلك الحين، داعماً بقوة لجهود الاتحاد الأوروبي الساعية إلى بناء سلام يبدأ من القاعدة ويصل إلى القيادة. وقد ظل الاتحاد الأوروبي ملتزماً بالحل السياسي، إلا أن دولتين رئيسيتين انتهجتا من الناحية الأمنية مساراً معاكساً باتجاه الحل العسكري، فتغير اتجاه الرياح.

كانت هناك إشارات سابقة بأن الحل السياسي لم يعد في مقدمة أفكار دوائر القرار البريطانية. وفيما شكل إشارة مبكرة حول خروجي المقبل من إدارة الاتحاد الأوروبي، والذي سعت إليه بريطانيا، أخبرني مسؤول بريطاني رفيع المستوى بشكل صريح، بأن عملي على بناء إجماع فلسطيني يبدأ من القاعدة ويصل إلى القيادة وإقامة اجتماعات في صالات البلدية مع كل الفصائل، والانتقال يومياً بين القاعدة الشعبية والرئيس عرفات لضمان خطوات عملية وزخم مستمر، والعمل مع حركة حماس، قد انتهى. وأوضح لي بأنه أصبح هناك عهد جديد، وأصر على أن “الطريق إلى القدس، والحل السياسي الإسرائيلي الفلسطيني، قد أصبحا يمران عبر بغداد” وقد جرى هذا الحديث بيني مباشرة قبل غزو العراق سنة 2003.

كانت الرسالة واضحة، فقد غدا الهدف حينها تفكيك المقاومة الفلسطينية وهزيمته ا نفسياًُ من خلال العرض الهائل للقوة الغربية في العراق، بدلاً من إقناعها بدخول العملية السياسية. وكانت بريطانيا والولايات المتحدة تبحثان عن شريك فلسطيني تم تأديبه من أجل القيام بالتنازلات اللازمة لـ”إسرائيل” في مرحلة ما بعد الحرب على العراق. وكان المذهل في الأمر كله، القناعة شبه العقدية التي بدت على محدثي، من أنه متأكد من أن هذا المسار سيكون هو النتيجة الحتمية.

وكانت تلك الأيام أيام اندفاع المسؤولين الأمريكيين والبريطانيين، وكانت الحماسة للحرب على الإرهاب تنتشر بشكل كبير. وفي اجتماعي الأول مع خلف السير ديفيد في شارع داونينغ، السير نايجل شينوالد Nigel Sheinwald،  شرح لي الأخير بغضب أن الأمن في فلسطين لا يمكن أن يتحقق إلا بإزالة “فيروس” حماس من غزة والقضاء على “مرضه” في المنطقة، وذلك بدوره لا يمكن أن يتحقق بالطبع إلا من خلال إيجاد قوة أمنية شرعية تمثل مختلف شرائح المجتمع. وقد كان من الواضح أنه يتحدث بلغة واشنطن، وأنه أصبح ينظر إلى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ليس كمسألة قائمة بحد ذاتها، بل كفرع من فروع الحرب على “التطرف”، مما شكل حجر دومينو آخر تم الدفع به لشد عضد “المعتدلين”.

وقد تضمنت “الأوراق الفلسطينية” التي أصدرتها الجزيرة نسخاً عن الخطط السرية البريطانية التي وضعت سنتي 2003/2004 لتفكيك قدرات الفصائل الفلسطينية المعارضة لمنظمة التحرير، من خلال قطع اتصالاتها واغتيال أعضائها وإغلاق مؤسساتها المدنية والخيرية، وإزالتها من الهيئات العامة ومصادرة أصولها . لقد وضع السيد توني بلير Toni Blair دروس بناء السلام التي استخلصتها بريطانيا من الحرب مع إيرلندا الشمالية جانباً ليتبنى الانتفاضة المضادة (COIN).

وفيما بعد، شرح لي بشكل خاص، مسؤول استخباراتي إسرائيلي رفيع المستوى أنه في أيلول/سبتمبر 2003، أجبر الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، محمود عباس على الاستقالة من منصبه كرئيس وزراء، فدعا الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش George W. Bush توني بلير وهو غاضب ومحبط، وعبّر له عن استيائه لكون الأوروبيين “يرقصون حول عرفات” بينما يترك للولايات المتحدة مسألة القيام “برفع الأثقال” في “إسرائيل”، كما أبدى بوش اعتراضه على العملية الشاملة لبناء السلام التي كنت أعمل عليها، لأنه كان يراها غير متوافقة مع “حربه على الإرهاب”.

وأظن أن تلك اللحظة كانت علامة فاصلة، فالتحول السري البريطاني باتجاه الانتفاضة المضادة زعزع السياسة الأوروبية تجاه هذا الملف بشكل كامل، فقد تم تفريغ الخطاب العلني الأوروبي حول تشجيع الإجماع الوطني من مضمونه من خلال المشاركة على المستوى الأمني السري في عملية التطهير السياسي التي استهدفت معارضي منظمة التحرير، ومنهم مقاتلو فتح الذي نشطوا في الانتفاضة الثانية من داخل مؤسسات المنظمة. ومنذ ذلك الوقت، ظل الاتحاد الأوروبي يتحدث عن تشجيع الوحدة الوطنية الفلسطينية بينما كانت الدول الأوروبية تسير عملياً في مسار القمع الأمني للحركات الفلسطينية نفسها التي كان الاتحاد الأوروبي يحاول إقناعها بالدخول إلى الساحة السياسية.

غير أن نتائج هذه السياسة أثبتت فشلها عندما لم تتأثر معنويات حركة حماس، ولم تهزم نفسياً بالصدمة والترويع مما جرى في بغداد، بل إنها استطاعت بسهولة أن تحقق فوزاً مريحاً في الانتخابات الفلسطينية في سنة 2006، وبالتالي، فإن المنطق الجديد وتعمق تورط الاتحاد الأوروبي بالانتفاضة المعاكسة، دفعا الاتحاد الأوروبي إلى الانخراط في رد فعل أمني عسكري بدلاً من استكشاف الإمكانات السياسية لكسب حماس.

وقد كتب مندوب اللجنة الرباعية للأمم المتحدة، ألفارو دي سوتوAlvaro De Soto، للأمين العام للأمم المتحدة  معترضاً أن شروط اللجنة الرباعية لإشراك حماس وضعت عن قصد بحيث يكون من الصعب أن تقوم حماس بتلبيتها بشكل معقول؛ وبذلك تمت الهندسة لإقصائهم، وقد اختار دي سوتو ترك الأمم المتحدة بعد ذلك بوقت قصير.

وقد يبدو غريباً أن تتقبل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي التحول الذي جرى سنة 2003 باتجاه الحل العسكري بهذه السهولة، ولكن مقاربة بلير أثبتت أنه من الصعب مقاومتها، فقد تركت الانشقاقات التي وقعت داخل الاتحاد الأوروبي أثناء تطور الأمور باتجاه شن حرب على العراق الاتحاد في حالة من الضعف الشديد. فكما أذكر، صدق حدس رومانو برودي Romano Prodi، رئيس مفوضية الاتحاد الأوروبي في زخم الخطاب الامريكي الفضفاض والقائل بأن “الرجال الحقيقيين يريدون الذهاب إلى طهران” بأنها أصبح لزاماً على الاتحاد الأوروبي أن يحاول استيعاب العجرفة الأمريكية، التي كانت تتسع من خلال العمل بشكل متسق مع واشنطن، وفي الوقت نفسه السعي لتخفيف وطأة العواقب الأكثر الأقسى لهذه السياسة.

عمل الاتحاد الأوروبي مع الولايات المتحدة على أمل  اكتساب دعم مسؤولين أمريكيين مثل كولن باول Colin Powell، ممن قد يستطيعون تخفف حدة السياسات الأمريكية. ولكن رغم ذلك، ضاقت خيارات الاتحاد الأوروبي بسبب تسليمه مسبقا ً بالمبدأ الأمريكي القائل بحق “إسرائيل” في تقرير حاجاتها الأمنية بنفسها مما يحد من الحيز الذي يستطيع فيه الفلسطينيون أن يجدوا “حلّهم”. وقد استمرت أمريكا وبريطانيا في مشروع الانتفاضة المضادة، ولم تؤدِّ جهود الاتحاد الأوربي لتخفيف حدة هذه السياسة إلى أية نجاحات ملموسة.  ولم يخبرني نائب كولن باول ريتشارد أرميتاج Richard Armitage  إلا فيما بعد بأن وزير الخارجية الأمريكي كولن باول، تجنب إجراء أي حديث شخصي مع الرئيس الأمريكي لمدة 18 شهراً على الرغم من إلحاح أرميتاج على هذا الأمر.

وسعى الاتحاد الأوربي ومسؤولو السياسة الخارجية الأوروبيين لسياسة “داعمة” مشابهة مع كوندوليزا رايس Condoleezza Rice، حيث كانوا حرفياً يتدافعون فيما بينهم حول كيفية لمساعدتها والذين يحصلون على نقاط أكثر من خلال اتصالات أكثر في الأسبوع مع سكرتيرة الدولة كان بوسعهم التباهي بكيفية لعبهم لدور “الإلهة أثينا” مع عضلات بوش “الرومانية”. وبوسعنا الآن أن ندرك كم كان تأثيرهم على واشنطن ضئيلاً.

ولذلك عندما ظل المبعوث الخاص للاتحاد الأوروبي مصراً على  القول للمفاوض الفلسطيني في سنة 2006 أن الاتحاد  لديه مقاربة مختلفة حيث أن “الولايات المتحدة تريد لحكومة حماس أن تفشل … [بينما ] الاتحاد الأوربي سيشجع حماس على التغيير وسيحاول جعل الأمور تسير بنجاح قدر الإمكان”  فإن كلماته كانت جوفاء، لأنه في الوقت الذي كان يقول فيها ذلك للمفاوض فلسطيني فإن دولا أوروبية بارزة كانت تزيد من دعمها السري لتدمير قدرات حماس العسكرية ولتطهير الضفة الغربية من مؤسساتها المدنية وداعميها من الحياة المدنية.

بعد سنة 2003، كانت سياسة بريطانيا تشير إلى أنها ستتبنى لاحقاً مقاربة أوسع بكثير وأشد تنظيماً. وقد حصل ذلك فعلاً بعد سنة 2006، حيث تبنت الانتفاضة المضادة التي قادتها الولايات المتحدة والتي كانت مغلفة بخطاب ليبرالي جديد حول الإصلاح الأمني ودولة القانون. وقد كان السبب الجزئي  لتبني هذا الخطاب مواجهة الانتقادات الحادة التي وجهت للموقف الغربي تجاه الانتخابات الفلسطينية.

وتظهر “الأوراق الفلسطينية” كيف اتسع المشروع الأمني حيث اتجه إلى الاستثمار الكبير في التدريب والبنى التحتية الأمنية وبناء السجون لاحتواء أكبر قدر ممكن من النزلاء من أعضاء حماس، وتأسيس كتائب دايتون العسكرية لمواجهة حماس والتخطيط لإسقاط حماس في غزة، واستهداف قادة حماس بالاغتيال. وحتى اللجنة الرباعية الدولية انغمست في هذه الجهود حيث عملت مع مخابرات الدول العربية لتعطيل مصادر تمويل حماس.

ولم يكن هناك بد مع التشديد الواضح على التعاون الفلسطيني مع “إسرائيل” من أن تتسع المطالبة بالمزيد من التعاون، وقد تنامت هذه المطالب بحيث تلاشت بقايا “السيادة” التي كانت ستبقى لأية دولة فلسطينية – حيث لن تعني “الدولة” الفلسطينية المزعومة سوى وجه آخر من وجوه استمرار الاحتلال، حيث تعمل كامتداد لآليات التحكم الإسرائيلي.  فدوف فايسغلاس Dov Weissglas الذي كان سابقاً رئيس مكتب رئيس الوزراء شارون Sharon كان واضحاً حيث قال إن “محاربة الإرهاب ونشر الهدوء” هما المقياسين اللذين كانت “إسرائيل” تريدهما من منظمة التحرير.

وأصبح هناك ضرورة للبحث عن صيغة مخفف للاحتلال لاعتمادها كإستراتيجية للتحكم والاحتواء، لتترافق مع العملية السياسية؛ حيث اعترف الطرف الفلسطيني على مضض بتعريف “إسرائيل” بذاتها لاحتياجاتها الأمنية ولأدواتها العسكرية والسياسية ليصبح هذا التعريف ضرورياً وكافياً ويمكن بناء أي تسوية على أساسه. ونتيجة لذلك، فإن السياسة الأوروبية التي تبنت هذا الاقتراح مالت بشكل متزايد باتجاه القناعة بأن بوابة إنشاء الدولة الفلسطينية لا يمكن أن تأتي إلى عبر احتياجات “إسرائيل” الأمنية والتي تحددها هي بنفسها. وأعتقد أن هذا الافتراض الأساسي الشائع هو افتراض خاطئ وأنه يستند على فهم خاطئ للاستراتيجيات الإسرائيلية.

وقد اصطبغت العملية السياسية برمّتها بهذا الميل نحو “بناء الثقة مع إسرائيل”، منذ التحول الذي حدث في سياسة السيد بلير سنة 2003 ، فالمسار العام باتجاه بناء دولة القانون والمؤسسات والتعاون الأمني والتعاون السياسي في “بناء المؤسسات” معروف جيداً، غير مشروع بناء الدولة الفلسطينية ككل يجب أن يُفهم بشكل أكبر في سياق الثورة المضادة التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمقاربة “إسرائيل” الفريدة للإدارة الجماعية للفلسطينيين، وليس كجزء من أي مفهوم لإرساء قواعد الحكم الجيد.

ويعد العمل الأمني ضد “المتمردين” مجرد عنصر صغير في  مجمل عناصر العقيدة الأمريكية المتعلقة بالانتفاضة المضادة، والتي ترجع على الأقل إلى حملة الجنرال جاي فرانكلين بيلز General J. Franklin Bell  في أوائل القرن العشرين ضد “المتمردين” الفلبينيين، ومبادئها تتضمن بناء نخبة حاكمة لتعمل وفق خطة أمريكية وتأسيس خدمات أمنية مسؤولة فقط أمام هذه النخبة، وتركيز السيطرة الاقتصادية في أيدي هذه النخبة لإضفاء اعتماد مادي (وسكون) لدى الناس وسياسة مساعدات كريمة تضمن “تسرب الشرعية” إلى تلك النخبة، والفكرة المتكررة في هذه العقيدة من الفلبين إلى فيتنام كانت نشر الخضوع، وفي السياق الفلسطيني فإن مكونات هذه العقيدة استخدمت لتوفير التعاون الفاعل والوطيد مع “إسرائيل” وتفكيك المقاومة الفلسطينية.

وجوهرها نظرياً هو التبادل القائم على زيادة النزعة الاستهلاكية، التي يتم توصيلها عبر الليبرالية الجديدة مقابل الهدوء غير السياسي، وممارستها من فيتنام إلى جنوب أفريقيا كان بدون استثناء تقريباً مرتبطاً بالقمع الأمني والتعذيب، والمشاهد الأخيرة والقصص التي تبرز من القاهرة حول إساءة استخدام الخدمات الأمنية  تؤكد خطر هذا النوع من المقاربة. وبما أن المصريين الذين تحرروا حديثاً فإنهم يسعون الآن لمحاسبة المسؤولين عن مثل هذا النظام.

ما إن يتم فهم كيفية تشكيل المؤسسات الفلسطينية على هذا الأساس، تتضح أكثر أهمية التحول النوعي في مفهوم الدولة. فمقالة أيشلينغ بيرن  “بناء دولة بوليسية في فلسطين”  Building a Police State in Palestine  تشرح الطبيعة النظامية والتمثيلية، فيما يحاول رجاء خالدي في مقال سينشر لاحقاً أن يشكر بأن  نموذج بناء المؤسسات الليبرالية الجديدة المميزة لسلام فياض  ليس إلا إمعاناً في جعلها هشّة أمام السيطرة الإسرائيلية على الاقتصاد المفتوح المرتكز على المستثمرين العالميين.

ومما يميز الليبرالية الجديدة العيب المؤدي إلى منافع مادية للنخبة على حساب عدم المساواة الاقتصادية المتنامية والتفتت الاجتماعي، ويستنتج خالدي في مقاله  أن مثل هذا النموذج لا يمكنه أن يخدم كإستراتيجية للتنمية الاقتصادية المستديمة في السياق الفلسطيني ولكن “مفرداته التقنية والحيادية تقوّيها الرغبة بالتخلص من السياسة وفي الواقع من الطبيعة السياسية نفسها للقضية الفلسطينية”

ربما ضمن هذا التأطير الخاطئ “للدولة” فإن الطبقة الوسطى الفلسطينية  الجديدة قد تعيش براحة أكثر، وربما سيكون هناك حرص على إخفاء الأدوات الظاهرة للاحتلال والتحكم بالحياة الفلسطينية ولكن مثل هذه “الدولة” لن تكون دولة استقلال وسيادة بل ستكون احتلالاً، وحتى لو كان هذا  الاحتلال مخففاً ولكنه يبقى احتلالاً.

فالغرب وقيادة رام الله يتبنيان بقوة عقيدة “الأمن أولا”  معتقدين أن حل الدولتين سيبرز في النهاية بسبب إدراك الطرف المسيطر أن مصلحة “إسرائيل” الديموجرافية ستحتم عليها أن تقبل به.  غير أن “إسرائيل” لم تقدم هذا الحل على الرغم من توفر العديد من الفرص في السنوات الـ 19 الأخيرة ولا يبدو أنها تميل لتقديمه الآن، ولكن نادراً ما يسأل لماذا – إذا كان المنطق في الواقع مقنعاً لهذه الدرجة؟

كان هناك افتراض جذري منذ بداية العملية السلمية أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تسعى لتحقيق أغلبية يهودية في “إسرائيل” والمحافظة على تلك الأغلبية، ومع مرور الوقت وتنامي أعداد السكان الفلسطينيين ستضطر “إسرائيل” ببساطة إلى قبول قيام دولة فلسطينية  لكي تحافظ على أغلبيتها اليهودية، أي أنه لا يمكن الحفاظ على الأغلبية اليهودية في “إسرائيل” إلا من خلال إعطاء الفلسطينيين دولتهم الخاصة بهم.

قد تكون هذه الرواية مقنعة ولكنني أعتقد أنها تفترض خطأ أن الإسرائيليين يفكرون في مستقبلهم، وأرى أن قوة الإيمان بفرضية “الحفاظ على أغلبية يهودية” وبديهية مبدأ “السلام أولاً” تسهم في إعماء الأعين عن الممارسات والأفكار الإسرائيلية التي ركزت على كيفية المحافظة على الصهيونية داخل الدولة اليهودية، بدلاً من المحافظة ببساطة على أغلبية يهودية ضمن دولة ذات مفهوم غربي.

لقد كان التزام القادة الأوربيين بعقيدة “حتمية الدولتين” قوياً لدرجة أن سياستهم بنيت حول  هذه الفرضية غير القابلة للجدل ودون شروط تقريباً، وقد تم التمسك لدرجة الرضوخ الضمني للحصار الإسرائيلي على غزة، ولكن مع حلول سنة 2007 أشار لي خفيير سولانا  Javier Solana ومن بعده وزير السياسة الخارجية للاتحاد الأوربي بأن هناك ديناميكية جديدة في التفكير الأوروبي، وكنت قد قابلت في وقت سابق من ذلك اليوم مسؤولين أوروبيين عبروا  جميعاً عن استياء من سياسة الاتحاد الأوروبي ولكنهم وبنفس القدر كانوا نادمين على أي منظور لإقناع الدول الأعضاء بتغيير التوجه.

وأعطت مناقشتي اللاحقة مع خفير سولانا إجابة جديدة لتبرير برودي السابق “للاحتواء الأمريكي”، وعند اقتراحي بأن الاتحاد الأوروبي لا يمكنه أن يستمر في دعم الأمر الواقع بل عليه أن يعترف بالقوى الجديدة الصاعدة سألني سولانا سؤالا بدا في حينها غريباً: “ولكن إذا فعلنا ذلك فماذا سيحدث لصديقتي حنان عشراوي؟ هل ستظل قادرة على وضع أحمر الشفاه وأن تستمتع بين حين وآخر بكأس من النبيذ؟”

شكل ذلك أول إشارة لي إلى شعور أوروبا بهشاشة هويتها، فدخول تركيا إلى الاتحاد الأوربي كان يلقى معارضة بعض الدول الأعضاء على أساس أنه سيهدد القيم المسيحية التي تكمن في الهوية الأوربية، وأثناء نزولي من مكتب سولانا أضاف زميل لي باستياء “سريعاً سيتغير المكان (المفوضية الأوربية) كثيراً: أوروبا تتحرك نحو اليمين” وقد صدقت توقعاته، فصعود المشاعر المعادية للمهاجرين  وللمسلمين في أوروبا أصبح عاملاً رئيسياً في عرقلة قدرة الاتحاد الأوروبي على تخطي كونه حارسا ً للوضع الراهن المتآكل بسرعة ولحل الدولتين.

ويجادل البروفسور مشتاق خانMushtaq Khan    بأن مفاوضات أوسلو القائمة على حل الدولتين  كانت تستند إلى تأكيد مثير للاهتمام أن الفلسطينيين لم يكونوا بحاجة لأية قوة مساومة لأن “الجميع اعتقدوا أن نهاية اللعبة كانت واضحة، في النهاية فإن حل الدولتين سيبرز لأن القوة المسيطرة … ستقبله لمصلحتها الخاصة، فلماذا نزعج أنفسنا بقراءة الوثائق؟ علينا التوقيع فقط، …” ( فقد أكد لي الكثيرون ممن كانوا قريبين من محادثات أوسلو أن ياسر عرفات لم يقرأ أبدا بشكل كامل الوثائق البالغة 400 صفحة قبل التوقيع).

ويلاحظ البروفيسور خان أن أوسلو كانت مبنية على تمارين في بناء الثقة بدلاً من المفاوضات الجدية المستندة على قوة المساومة، “في الواقع نحن نعلم أن أوسلو لم تكن ناجحة منذ يومها الأول … فبعد توقيع أوسلو لم تفصل “إسرائيل” نفسها عن المناطق الفلسطينية المحتلة وفي الواقع لقد غزت إسرائيل المناطق المحتلة بشكل أكبر، وقد وقعت اتفاقية إثر اتفاقية للسيطرة على متغيرات الاقتصاد الفلسطيني: التجارة الخارجية والضرائب والعملة وحركات العمل  والاندماج مع “إسرائيل” كان له خاصية غريبة فلم يكن اندماجاً كما لم يكن انفصالاًً بل كان احتواءً غير متوازٍ وفقاً للشروط الإسرائيلية التي كانت تعني اختراقاً إسرائيلياً للمناطق الفلسطينية المحتلة  ومحاولة للإبقاء على هذا الاحتواء، والآن لماذا قد تفعل ذلك إن كانت تنوي الانسحاب إلى حدود 1967؟ وما هو المنطق هنا؟

تظهر الأوراق الفلسطينية أن تسيبي لفني Tzipi Livni   أعربت في جلسة مفاوضات في كانون الثاني/يناير سنة 2008 لأحمد قريع وصائب عريقات عن الإستراتيجية الإسرائيلية قائلة “إسرائيل تأسست لتصبح وطناً قومياً لليهود من كافة أرجاء العالم، يحصل اليهودي على الجنسية حالما تطأ قدمه أرض إسرائيل، لذا لا تقولا أي شيء عن طبيعة إسرائيل … فالقاعدة التي نشأت على أساسها إسرائيل هي أنها تأسست من أجل الشعب اليهودي … إسرائيل دولة الشعب اليهودي وأود التأكيد  على معنى شعبها، فهو الشعب اليهودي مع كون القدس العاصمة الموحدة وغير المقسمة لإسرائيل وللشعب اليهودي على مدى 3007 سنوات … دولتكم ستكون الجواب لكل الفلسطينيين بما في ذلك اللاجئين”.

فأجابها عريقات حينها “إذا كنتم تريدون تسمية أنفسكم دولة إسرائيل اليهودية فسموها كما تشاءون”، فقد كان عريقات يفسر الأمر على أنه مجرد مصطلح، ولم يكن يرى في تعريف ليفني تصريحاً واضحاً يحمل دلالات متعلقة بكيفية رؤية “إسرائيل” لخصائص الدولة الفلسطينية المقبلة. وقد أوصل عريقات للأمريكيين فرضيته القائلة بأن الإسرائيليين يريدون الدولة الفلسطينية أكثر من الفلسطينيين أنفسهم”. وفي واقع الأمر أعربت ليفني عن كونها تريد دولة صهيونية مفتوحة أمام أي يهودي يقرع الباب، غير أن الحفاظ على مثل هذا الحق في بلاد محدودة المساحة يقتضي إبقاء الأرض والمياه تحت سيطرة الدولة.

ولا يمكن لـ”إسرائيل” وفقاً لهذا المنظور الصهيوني الذي عبرت عنه ليفني أن تكون دولة يتمتع مواطنوها بحرية المعتقدات والمساواة السياسية، فالصهيونية في جوهرها قائمة على إعطاء حقوق مختلفة لليهود وغير اليهود وإعطاء الأولوية لليهود الوافدين. وهذه الحقوق المختلفة تؤثر على كل شيء مثل إمكانية الحصول على الأرض والإسكان والعمل والدعم المادي والزواج بالأجانب والهجرة وغيرها، والأقليات التي تطالب بحقوق دينية وسياسية ضمن الدولة الصهيونية تمثل تناقضاً داخلياً وتهديداً لهذا النظام القائم على الحقوق الخاصة.

وتدخل تداعيات هذه النقطة الأخيرة الغائبة عن أذهان المفاوضين في صميم الحسابات الإسرائيلية فيما يتعلق بالدولة الفلسطينية المفترضة، خصوصاً وأن حرب 1967 قادت إلى تطور النظام السياسي القائم على الاحتواء الإقصائي للفلسطينيين، الذي صمم بدقة لتجنب التناقضات الأساسية في الحقوق، وكيفية إدارتها، وهو نظام أصبح يمثل الرؤية السائدة في دوائر صناعة القرار الإسرائيلية.

ومنذ عقد مضى كنت ضمن فريق عمل السيناتور جورج ميتشل George Mitchell خلال جولته الأولى في المنطقة عندما طلب منه أن يرأس “لجنة استقصاء الحقائق” حول أسباب الانتفاضة الثانية. وحتى في ذلك الحين كانت رؤية ليفني واضحة في الاستراتيجية الإسرائيلية القائمة على إقصاء الفلسطينيين من الجسم السياسي وجعلهم في الوقت نفسه خاضعين لأدواته وسيطرته. وقد تبنى الإسرائيليون سياسة خاصة بالمناطق المحتلة قائمة على المرونة وتغيير المعالم الجغرافية وتعليق حكم القانون تحت غطاء قانوني!
كان الشهود الإسرائيليون هم الذين وصفوا للجنتنا تطور العقلية الإسرائيلية بعد حرب 67  وكيف تغيرت نظرة الإسرائيليين  لأنفسهم كأوصياء على شعب محتل إلى عدّ كل الفلسطينيين يشكلون نوعاً من التهديد الأمني، وقال الشهود أن هذا التطور جاء نتيجة دخول المستوطنات في المناطق المحتلة حديثاً، وقد تعامل المستوطنون مع كل الفلسطينيين كأعداء وكخطر محتمل وبشكل تدريجي تشرب الجيش  والإسرائيليون  بشكل عام بهذه الروح .

فمنذ إنشاء دولة “إسرائيل” لاحق طيف الاحتواء السياسي “للفئات السكانية الخارجية” (غير اليهود)، الصهيونية ثم الحكومة المتتالية بعد ذلك. وذكر الشهود الفلسطينيون للجنتنا هناك العديد من الإجراءات التي تم التعامل من خلالها مع الفلسطينيين في الأراضي المحتلة بصفتهم غير مواطنين، وذلك من خلال وصفهم بأنهم يشكلون تهديداً أمنياً؛ وتحت هذه الذريعة تم إخضاع الفلسطينيين لكمية لا حد لها من “الاستثناءات القانونية” العسكرية في الأراضي المحتلة مما عطل عملياً معظم حقوقهم السياسية.

ومن ناحية أخرى، بيّن الشهود الفلسطينيين كيف سلمت “إسرائيل” مهمة التحكم بالشعب إلى السلطة الفلسطينية ولكنها لم تسلم مطلقاً الأرض أو مصادرها، وأفادوا أن المستوطنات كانت موزعة خصيصاً لتشتيت الفلسطينيين في مناطقهم.

وقد سمح هذا الاستثناء القانوني الذي يبرره التهديد بتشكيل حيز ذو طبقتين حيث يخضع الإسرائيليون اليهود والعرب لمنظومات مختلفة فيما يتعلق بحركتهم والمعاملة الإدارية القائمة على التمييز في الحقوق، ويتبنى هذا النظام المزدوج سياسة إقصاء العرب ولكنه يحفظ الاعتماد الفلسطيني على الإسرائيليين وبقاءهم تحت السيطرة الإسرائيلية.

ويشكل هذا النظام أحد “استثناءات السيادة القانونية” التي روج لها فلاسفة مثل كارل شميت Carl Schmitt، فالمناطق الفلسطينية المحتلة أصبحت استثناءً زمنياً ومكانياً، وكأنها شيء ما في الخارج، ومنفصلة عن المركز الأساسي السياسي ضمن الخط الأخضر ولكنها جزء منه أيضاً، وقد أصبح للمناطق الفلسطينية المحتلة جغرافية مرنة متحولة يكون فيها حكم القانون معلقاً تحت غطاء قانوني ومن هنا جاء مبدأ “الاحتواء الإقصائي”.

وقد كان أرييل شارون Ariel Sharon رائداً في فلسفة التجاهل التجاوزي للقانون وجغرافيته وحدوده أثناء عمله في الجيش، وكانت فلسفته الأمنية تستند إلى ديناميكيات “الإبقاء على عدم اليقين” الذي حد من حيّز الفعل ورد الفعل من خلال موزاييك متغير من الإجراءات واستخدامها بشكل منتقى، ومن خلال تشريح المكان عبر نموذج من الحدود المتغيرة باستمرار كان المقصود منها إعطاء الفلسطينيين شعوراً بكون الأمور مؤقتة على الدوام.

وبالتالي، ظل الفلسطينيون من خلال الانفصال عن الغالبية اليهودية وبفضل استثنائهم من غالبية الأطر القانونية، والممارسة المنتظمة لتغيير الحدود، والاستخدام المحسوب لمستويات مختلفة من العنف العسكري، معلقين في حالة من “الشك الخاضع للتحكم” كما ظل المواطنون الفلسطينيون داخل الخط الأخضر، يعدون مجموعة معادية على أساس الشك في ولائهم للدولة. وقد وصل هذا النوع من التفكير قد وصل الآن إلى اليمين الأوروبي – فقد استخدم ديفيد كاميرون David Comeron حججاًَ مماثلة  لتبرير الاستثنائية والقدح في الولاء للدولة، فيما يخص المسلمين الذين يعيشون في بريطانيا.

إن عدم الاستقرار والشك لدى الفلسطينيين ضمن الخط الأخضر لا يعود إلى استثنائية تجاه النظام القانوني بل إلى الغموض والاستثنائية التي تتضمنها التهديدات بتبادل السكان التي يروج لها قادة إسرائيليون،  وبالتالي يشكل الخوف من التشرد مرة أخرى مصدراً للخضوع السياسي.

فما الذي يحدث إذاً؟ كل العوامل تشير إلى إستراتيجية طويلة الأمد، ولكن ما الذي تخشاه “إسرائيل”، وما الذي تحاول السيطرة عليه؟ يقول البروفيسور خان ثانية ” ما إن تجعل من الواضح أن الهدف هو الإبقاء على الصهيونية في الدولة اليهودية … يصبح كل شيء تفعله إسرائيل منطقياً” والخوف بالطبع هو من أنه إذا أصبحت “إسرائيل” دولة ذات غالبية يهودية ولها حدود ثابتة فإن الطلب الذي لا يمكن التخلص منه للحصول على حقوق مساوية للأقليات ستليه في النهاية الحقوق الخاصة للصهيوينة ولن تعود “إسرائيل” دولة صهيونية.

ولذلك، فإن حل الدولتين لا يخفف من مشاكل الحفاظ على الصهيونية بل يعقدها، فقد يتناقص حجم غير اليهود في “إسرائيل” في حال قيام دولة فلسطينية من 40 أو 50% إلى 20% ، غير وجود أقلية غير يهودية في “إسرائيل” تتمتع بحقوق متساوية مع اليهود قد يهدد جوهر وجودها كدولة يهودية. وبالتالي، إن الاستجابة الإسرائيلية الوحيدة لهذه المعضلة ستكون بإبقاء الحدود غير واضحة مما يدع الفلسطينيين في حالة من الشك الدائم ومعتمدين كلياً على النوايا الإسرائيلية الحسنة مع الإبقاء على الأراضي ومصادر المياه في يد الإسرائيليين.

والمشكلة هي أن التحالف الداعم لحل الدولتين ينهار دائماً في نقطة ما لأنه، كما أشار مشتاق خان، إذا كنت ستعطي حقوق تمييزية لنسبة 15 أو 20% من السكان فلماذا لا تعطي حقوقا تمييزية لـ 35% أو 40% من السكان وتبقي الرؤية الصهيونية سليمة من خلال التمسك بالضفة الغربية أو أجزاء واسعة منها؟ هل يود التفكير الصهيوني من الناحية الإستراتيجية أن تكون له حدود ثابتة في مكان ما؟ لا بد أن الجواب هو “لا”، فما الذي تكسبه “إسرائيل” بتنازلها عن الأرض طالما سيكون لديها في نهاية الأمر المشكلة نفسها التي تبرر من خلالها للعالم لماذا يجب عليها الاستمرار في سياساتها التمييزية؟

ومما يعقد هذا الوضع هو موقف “إسرائيل” من الفلسطينيين داخل الخط الأخضر واللاجئين في حال إقامة الدولة الفلسطينية.  يرى خان أن إدارة “إسرائيل” لهذا الملف يستند  بشكل أساسي على قدرتها على الاستمرار في السيطرة على الأراضي الفلسطينية المحتلة.

إن الحفاظ على سيطرة العملاء على الأراضي الفلسطينية المحتلة يبقي الخيار أمام “إسرائيل” مفتوحاً لتشريد المواطنين الفلسطينيين في “إسرائيل” إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة من خلال تبادل محدود للمناطق، كما أنه يضمن أن تحتفظ “إسرائيل” بالقدرة على تحديد  مصير اللاجئين الفلسطينيين هل سيعودون إلى دولة فلسطينية ذات سيادة أم لا. ويناقش خان بأن التصور بأن “إسرائيل” تنظر إلى ملف اللاجئين وفلسطينيي 48 بشكل منفصل هو تصور خاطئ، فمن وجهة النظر الصهيونية فإنهما مرتبطان بشكل وثيق ويعتمدان على عدم خسارة “إسرائيل” سيطرتها على هذه المنطقة.

إذاً فإن الدولة الفلسطينية تهدد الصهيونية، بالتالي فإنه ليس عجباً أن تعرض “إسرائيل” عن حل الدولتين، وبالتالي فإنه من المستبعد أن تقوم الدولة الفلسطينية من خلال التفاوض بغياب قوة مساومة بأيدي الفلسطينيين، لأن إنشاء دولة شرعية ذات سيادة يتطلب من الفلسطينيين أن يجبروا “إسرائيل” على إعطاء شيء ليس من مصلحتها إعطاؤه وهو التخلي عن الصهيونية. وبالتالي، فإنه المناسب أكثر بالنسبة لـ”إسرائيل” أن يكون لديها “دولة” بدون حدود بحيث يمكنهم الاستمرار في التفاوض على الحدود والاعتماد على نشر الشك لإبقاء الخضوع.

فقد كان نائب رئيس وزراء “إسرائيل” موشيه يعالون Moshe Ya’alon صريحاً عندما سئل في مقابلة هذا العام “لماذا كل هذه الألعاب حول الإيهام بمفاوضات؟” أجاب “لأنه … هناك ضغوط، حركة السلام الآن من الداخل والعناصر الأخرى من الخارج، لذا على المرء أن يناور … يجب علينا … المناورة مع الأمريكيين والأوروبيين مما يخلق الوهم بأنه يمكن التوصل لاتفاق … فأنا أقول أن الوقت يعمل لصالح من يعرف كيف يستفيد منه، لقد عرف مؤسسو الصهيونية … ونحن في الحكومة نعرف كيف نستفيد من الوقت”.

كتب رئيس تحرير يديعوت أحرونوت Yediot Ahronot سفر بلوكر  Sever Plocker في 25 كانون الثاني/ يناير 2008أن خطة أفيغدور ليبرمان Avigdor Lieberman لإقامة الدولة الفلسطينية بدون حدود على نصف الضفة الغربية ، والتي خضعت لأخذ ورد، هي تقريباً خطة أعضاء البرلمان أيضاً، ثم “جادل نتانياهو  Netanyahu بأن الوضع الحالي على أرض الضفة الغربية مستقر وآمن ويشكل أرضية لحل النزاع، فالفلسطينيون لديهم مسبقاً ثلاثة أرباع دولة وعلم ومفتاح اتصال دولي … وكل ما يتبقى على الحكومة فعله، هو الموافقة على تغيير اسم الكيان من “سلطة” إلى “دولة” وأن يلقى لها بعض العظام الأخرى أي بضعة مؤشرات على السيادة مثل حق صك عملتها – وسيستمر السلام لمدة 70 سنة قادمة”.

هل يمكن لمثل هذا الاحتواء الإقصائي أن ينجح؟ إن “إسرائيل” تحب أن تقدم نفسها كموقع متقدم للقيم الغربية أي فيلا في “أدغال” الشرق الأوسط، لكن “الحقوق الخاصة” و “الشمول” الإقصائي يمثل تناقضا مع الرواية الغربية لقيمها، وأن شرعية تقديم نفسها كمنارة للحضارة الغربية في الشرق الأوسط قد يكون عرضة للانتقاد بشكل أكبر، مما يهدد شرعية “إسرائيل” على المدى الطويل.

أحقا لا يرى صانعو السياسات الغربية أياً من هذا؟ كافة مشاريعهم تتشابك بشكل وطيد مع نظام الاحتواء الإقصائي وتسهم بوضوح في جعله قابلاً للتطبيق العملياتي، فهل هذا الأمر استراتيجي أكثر من كونه قائماً على الصدفة؟

هل هم يفهمون ولكن لا يستطيعون التملص من مفاهيمهم،  ومن القيود الداخلية الناجمة عن المشاعر الصاعدة المعادية للإسلام؟ أو بشكل بديل هل يستنتج بعض “الواقعيين” الأوروبيين والأمريكيين أنه لم يكن هناك بديل واقعي: كان من الضروري أن يذعن الفلسطينيون لكي يسمحوا لـ”إسرائيل” بتجنب التناقضات الداخلية لإيديولوجيتها الصهيونية وهي تناقضات إذا لم يتم التأقلم معها يمكن ان تهدد استمرار “إسرائيل” في المنطقة؟

وإذا الأمر كذلك فإنه يظهر إلى أي حد قام “تحول” السيد بلير في سنة 2003  بإمالة مركز الجاذبية الأوروبي بعيداً عن أي انغماس في منظور أوسع في المنطقة، وأثناء الحرب العالمية الأولى  وعدت “القوى” الغربية الكبرى العرب بالاستقلال مقابل الدعم العسكري، ولكنهم خانوهم لاحقا، ولست وحيدا في النظر إلى التحرك الحالي للضمير العربي كنقض متأخر للاحتلال الاستعماري الجديد بدلا من الاستقلال.

وبعد حروب الخليج اللاحقة وعدت “القوى” بشكل مشابه بالعدالة والديمقراطية في المنطقة والانتقال إلى احتلال آخر، غير أن أي استعمال سيء لمفهوم الدولة سيعني أن التاريخ يعيد نفسه.

وعادة ما يلاقي التحذير من هذه التداعيات عبارة واحدة مستهلكة “لا توجد سوى لعبة واحدة في المدينة” وهذا ببساطة غير صحيح، فهناك سياسة أخرى لإعادة الحيوية إلى القيادة والتعبئة العامة واستعادة القوة التفاوضية التي عتمت عليها قوة رواية واحدة.

إن موت “عملية السلام” أعطانا لحظة نادرة من الوضوح – بما أن القصة التي تكمن في الرواية أصبحت مرئية بشكل غير متوقع، فإن مثل هذا الوضوح يفتح الآفاق أمام إمكانيات جديدة  وطرق جديدة لتصور الحلول، وأذكر كيف تحررت فجأة العملية المشابهة للاستقلال الناميبي والتي بدت لي آنذاك مقيدة دون فرص للحل لمدة 30 سنة مضت، ثم تغير الوضع فجأة بعد تغيّر الإطار الذي سببه الاتحاد السوفياتي غيّر مسار الأمور، فهل سيكون التغيير في مصر بمثابة “تغير الإطار” للإسرائيليين والفلسطينيين؟

الهوامش:

[1] يمكن الحصول على الأوراق الفلسطينية من موقع الجزيرة نت
[2] مارك أوت لصائب عريقات، آذار 2006، “الأوراق الفلسطينية”، من موقع الجزيرة نت

[3] أيشلينغ بيرن Building apolice state in palestine
[4] راجا خالدي وصبحي سامور” الليبرالية الجديدة بصفتها تحرير” (ستنشر في مجلة الدراسات الفلسطينية Journal of Palestine Studies

[5] البروفيسور مشتاق خان اضغط هنا
[6] 27 كانون الثاني 2008 “الأوراق الفلسطينية”
[7] يهوديت احرنوت 28 آذار 2010

مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات
آخر تحديث: 12/4/2011