مدة القراءة: 6 دقائق

بقلم: أ. د. إياد البرغوثي، مدير عام مركز رام الله لدراسات حقوق الإنسان.

كان تأسيس م. ت. ف. في العام 1964، استجابة لوضع إقليمي مثلت فيه القضية الفلسطينية البند الأساسي على أجندة القوى القومية، التي مثلها آنذاك الرئيس جمال عبد الناصر، وكانت في أوج صعودها. كما كانت كذلك استجابة لوضع فلسطيني آخذ في النهوض للتعبير عن بداية تحرك وطني في مواجهة إنشاء “إسرائيل” على الجزء الأكبر من فلسطين التاريخية، وتهجير الغالبية العظمى من سكانها الأصليين.

ثم جاءت حرب حزيران عام 1967، والتي احتلت فيها “إسرائيل” ما تبقى من فلسطين التاريخية بالإضافة إلى سيناء وهضبة الجولان، لتضرب الصعود الناصري القوي ومعه م. ت. ف. بصورتها التقليدية، ولتبعث حركات المقاومة الفلسطينية المسلحة التي تدفق عليها الشباب الفلسطيني والعربي، وتتوج ذلك إثر معركة الكرامة في آذار 1968، التي قاوم فيها المقاتلون الفلسطينيون بالتعاون مع جنود الجيش الأردني ضد القوات الإسرائيلية الغازية لمنطقة الكرامة في غور الأردن.

استمر ازدياد نفوذ حركات المقاومة الفلسطينية وفي المقابل استمر تراجع دور القيادة التقليدية لـ م. ت. ف. إلى أن تمت سيطرة تلك الحركات بزعامة “فتح” على م. ت. ف. وأصبح قائدها ياسر عرفات زعيم المنظمة بلا منازع منذ العام 1969 واستمر كذلك حتى وفاته في العام 2004.

وبغض النظر عما صاحب تأسيس م. ت. ف. من إشكالات وتطورات حدثت أثناء وبعد ذلك، فإن م. ت. ف. شكلت كياناً معنوياً للفلسطينيين وتعبيراً عن وحدتهم في الداخل والخارج، وتم الاعتراف بها كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، فكانت حاضنة للنضال وللشرعية الفلسطينية.

لقد نتج عن النكبة التي حلت بالشعب الفلسطيني في العام 1948، مسألتين مهمتين: احتلال الجزء الأكبر من أراضي فلسطين التاريخية وتأسيس دولة “إسرائيل” عليها، إضافة إلى تشريد الشعب الفلسطيني وتدمير البنية الاجتماعية والثقافية له. فكان من البديهي أن يهدف إنشاء م. ت. ف. إلى معالجة ما ترتب على النكبة من نتائج وذلك بالعمل على تحرير الأرض الفلسطينية من الاحتلال، وكذلك إعادة تجميع الشعب الفلسطيني وبلورة هويته الوطنية والثقافية والمجتمعية والسياسية.

كان من الواضح أن م. ت. ف. اكتسبت شرعيتها، فلسطينياً، من خلال إجماع الفلسطينيين على الأهداف التي نشأت م. ت. ف. من أجل تحقيقها، وكذلك من خلال تضامن والتفاف الأغلبية العظمى من الفلسطينيين حول المقاومة المسلحة التي تم اعتمادها كوسيلة رئيسية، وفي بعض الأحيان كوسيلة وحيدة في تحقيق المنظمة لأهدافها. وفي حالة المنظمة ارتقت الوسيلة (الكفاح المسلح) إلى مستوى الهدف (التحرير)، وأصبح الإيمان بالكفاح المسلح وممارسته شرطاً للدخول في عضوية المنظمة.

كما اكتسبت م. ت. ف. شرعيتها، إقليمياً، عندما اعترف مؤتمر القمة العربي المنعقد في الرباط عام 1974، بها كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني. واكتسبت شرعيتها دولياً، من خلال علاقاتها المتشعبة مع حركات التحرر العالمية ومع القوى التقدمية في العالم.

لكن أحداثا كثيرة مرت بها المنظمة أثرت في مسألة وحدانية تمثيلها للشعب الفلسطيني دولياً وفلسطينياً، وفي مكانتها بصورة عامة جعلتها تغير هدفها ووسائلها، ومن أهم هذه الأحداث كانت الانتفاضة الفلسطينية عام 1987، والتي تزامنت مع إنشاء حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، التي شكلت منافساً حقيقياً لـ م. ت. ف. ورفضت الانضمام إليها إلاّ بشروط تضمن “عدم احتوائها” من قبل حركة فتح الحركة الأكبر داخل م. ت. ف. كذلك فعلت حركة الجهاد الإسلامي التي رفضت هي أيضاً الانضمام إلى المنظمة.

حتى ظهور حركة حماس كمنافس قوي لـ م. ت. ف. كنا لا نحتاج لكثير من الجهد عند القيام بعملية تقييم لما أنجزته م. ت. ف. على الأرض، فقد استطاعت م. ت. ف. إظهار قضية الشعب الفلسطيني على أنها قضية سياسية وطنية من الدرجة الأولى، وليس قضية لاجئين بحاجة إلى مساعدات إنسانية فقط. وكذلك استطاعت التصدي للتشتت السياسي والهوياتي للشعب الفلسطيني، بحيث أبعدت شبح تمثيل بعض الأنظمة العربية للشعب الفلسطيني، وكذلك تم القضاء على كافة المحاولات في إيجاد قيادات بديلة للشعب الفلسطيني من قبل الاحتلال الإسرائيلي مثل روابط القرى. أما القوى الإسلامية (قبل ظهور حركة حماس)، فكانت منشغلة بشكل أكبر بالجوانب الدعوية والاجتماعية. 

ولم يكن في حينه من ينافس م. ت. ف. على قيادة الشعب الفلسطيني من داخل الصف الوطني أو الإسلامي، فكافة المنظمات الفلسطينية المقاومة قبلت وتحت شعار الوحدة الوطنية الانضمام إلى م. ت. ف. بقيادة حركة فتح، ورضيت بنظام الكوتا الذي حافظ على وجودها وامتيازاتها داخل م. ت. ف. ولكن دورها كان غالباً ثانوياً وغير مقرِّر في السياسات والتوجهات الأساسية وفي القيادة الحقيقية لـ م. ت. ف. أما على صعيد تحرير الأرض المحتلة فلم تكن هناك بالطبع أية نتائج.

بعد أن وقعت م. ت. ف. اتفاق أوسلو فقدت معظم عوامل شرعيتها التقليدية، فتحرير الأرض المحتلة، وبخاصة المحتلة عام 1948، لم يعد هدفاً بل تم التخلص منه علناً، ولم يعد الكفاح المسلح وسيلة أساسية أو وحيدة لتحرير الأرض بل أصبح “أحد” الطرق المعلنة للتحرير، ولاحقاً انتهى الأمر بالتخلي عنه كلياً واعتماد طريق المفاوضات كإستراتيجية وحيدة لتحصيل حقوق الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1967.

لدى تسلم ياسر عرفات وحركة فتح قيادة م. ت. ف. عام 1969، لم تضم المنظمة إلاّ ممثلي الفصائل المسلحة على اعتبار أن لا طريق للتحرير إلاّ عبر الكفاح المسلح، ولم يكن مسموحاً حتى للأحزاب السياسية أن تنضم للمنظمة. ففي حينه كان الكفاح المسلح أقرب إلى الإستراتيجية منه إلى الأداة، فكان ذلك أحد عوامل شرعية م. ت. ف. وتم التخلي عنه مع التوقيع على اتفاق أوسلو.

الذي حدث في تلك الاتفاقية ترك الباب مفتوحاً لكافة الاحتمالات ضمن خلل كبير في ميزان القوى لغير صالح الفلسطينيين. فالذي تم هو الاتفاق على تجريد الفلسطينيين من أدواتهم (ميثاق م. ت. ف. الكفاح المسلح، البعد القومي للقضية)، دون أن تحل أيا من القضايا الرئيسية مع الإسرائيليين، أو تحقيق أياً من الحقوق الوطنية الفلسطينية.

فقد اعترفت م. ت. ف. بـ”إسرائيل”، وهذا الاعتراف يعني موافقة من قبل المنظمة على أن 78% من أرض فلسطين التاريخية هي دولة “إسرائيل”، في حين جاء الاعتراف الإسرائيلي بأن م. ت. ف. هي ممثل شرعي للشعب الفلسطيني، وأن موضوع الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران 1967، والتي تشكل 22% من مساحة فلسطين التاريخية، هي قضية خاضعة للتفاوض. وبصورة أوضح فإن الذي جرى هو أن م. ت. ف. اعترفت بـ”إسرائيل”، وأن الإسرائيليين اعترفوا بقيادة الشعب الفلسطيني. اعترف الفلسطينيون أن هذه الأرض (78% من فلسطين التاريخية) هي لـ”إسرائيل”، واعترف الإسرائيليون أن هذه القيادة (منظمة التحرير الفلسطينية) هي للفلسطينيين.

أوسلو التي اعترفت فيها “إسرائيل” بـ م. ت. ف. أنشأت السلطة الفلسطينية من أجل قيادة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1967، ومن أجل تسيير عملية التفاوض مع الإسرائيليين، وتقرر أن تكون السلطة منتخبة من الفلسطينيين في الأراضي المحتلة وليس جهازاً إدارياً معيناً من قبل م. ت. ف. فكانت النتيجة أن كبرت السلطة الفلسطينية على حساب المنظمة. إن الاختلاف بين المنظمة والسلطة ليس فقط في طريقة النشأة بل أيضا الهدف الذي أنشئت كل منها للقيام به، وشكّل بالضرورة وضعاً تكبر فيه إحداهما على حساب الأخرى.

لذلك، بمرور الوقت هُمِّشت م. ت. ف. لصالح السلطة الفلسطينية، وساعد في ذلك أن المساعدات الأجنبية ذهبت باتجاه دعم السلطة الفلسطينية أساساً، وتم الاعتراف بها وبمؤسساتها من قبل الأطراف الدولية الفاعلة، وسهل ذلك فلسطينياً كون معظم قيادات م. ت. ف. هم أنفسهم قيادات السلطة وبخاصة الرئيس ياسر عرفات الذي جمع بين رئاسة م. ت. ف. ورئاسة السلطة ورئاسة حركة فتح، وكذلك فعل الرئيس محمود عباس فيما بعد.

لقد تمثل تهميش م. ت. ف. ليس فقط في تغييب مؤسساتها سواء اللجنة التنفيذية، أو المجلسين المركزي أو الوطني بل كذلك غياب الاتحادات الشعبية التي مثلت القاعدة الجماهيرية الأساسية لها. وتكريساً لتغييب المنظمة بكافة مؤسساتها فقد تم أحياناً، وعند الحاجة، استحضار بعض مؤسساتها لتمرير بعض القرارات والتي لم تكن تحظى بأغلبية شعبية فلسطينية مثل تغيير الميثاق الوطني الفلسطيني، أو تمديد فترة ولاية الرئيس أبو مازن ومن بعدها تمديد فترة ولاية المجلس التشريعي. لكنها لم تجتمع مثلاً أثناء أو بعد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، والتي هي حرب على جزء أساسي من الأرض الفلسطينية والشعب الفلسطيني.

يؤمن كثيرون أن ضرورة إنشاء م. ت. ف. والأهداف التي وضعتها نصب عينيها لتحقيقها والمتمثلة أساسا في تحقيق الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني مسألة وجودها وشرعيتها لدى الكثيرين رغم تحفظاتهم على وضعها الحالي. لكن من ناحية واقعية لا تكفي ضرورة وجود الشيء لإثبات وجوده الفعلي، فإذا ما أصرت هيئات م. ت. ف. على الغياب إلاّ حين تستدعى لغرض ما، وإذا ما بقيت السلطة، والتي يفترض أن تكون أحد اذرع م. ت. ف. تسطو على دور المنظمة وغالبا بنفس القيادات والشخوص فإن هناك إمكانية لغياب المنظمة إلى الأبد.

يشعر أعضاء م. ت. ف.  أنفسهم بأزمتها المستعصية، ولذلك يتم طرح مسألة تطويرها أو إصلاحها أو إعادة بنائها. ولهذا السبب أيضا كان موضوع  م. ت. ف. هو أحد أهم المواضيع على طاولة الحوارات في القاهرة أو في مكة أو دمشق أو غيرها من الأمكنة بين فتح وحماس بشكل أساسي وباقي الفصائل الفلسطينية.

ما زالت حركة فتح وباقي الفصائل المنضوية تحت لواء م. ت. ف. تعتبر المنظمة هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وما زالت حركة حماس لا ترى ضرورة بأن تكون داخل المنظمة بالشكل التي هي عليه الآن لكن دون إنكار وجودها، رغم مبادرة خالد مشعل بعد الحرب على غزة والتي طالب بإنشاء جسم يقود الشعب الفلسطيني، حيث فسر كثيرون ذلك بمحاولة لتجاوز م. ت. ف. وخلق جسم بديل عنها.

إن الموضوع الأكثر غرابة في إصلاح م. ت. ف. هو لماذا يتم ربط عملية الإصلاح هذه بعملية الحوار والمصالحة بين الفصائل وبخاصة بين حركتي فتح وحماس. ألا يمكن أن يتم تفعيل أو إصلاح مؤسسات وهياكل م. ت. ف. ودمقرطتها حتى قبل المصالحة؟  

باعتقادي أن عملية الإصلاح في هياكل ومؤسسات م. ت. ف. مثل تلك المتعلقة بتفعيل بعض أجهزة المنظمة؛ وإمكانية إدخال بعض الأساليب الديمقراطية في عمل تلك الأجهزة، ومحاولة تقليل الفساد فيها، مرتبطة بأمور ذاتية فلسطينية يمكن أن يتم البدء بها دون ربط ذلك بموضوع المصالحة بين الفصائل الفلسطينية. أما فيما يتعلق بإصلاح إستراتيجية عمل م. ت. ف. ودورها ومدى تمثيلها للشعب الفلسطيني فلها علاقة بقضايا وأمور أعقد وأعمق من ذلك. 

إن الاختلاف على تشخيص المرحلة التي تمر بها القضية الفلسطينية، وبخاصة بين أولئك الذين يقولون بأن هذه المرحلة هي مرحلة تحرر وطني من الاحتلال وبالتالي يجب مقاومته وهنا سيكون لـ م. ت. ف دور، وبين أولئك القائلين بأن الشعب الفلسطيني تجاوز هذه المرحلة وانتقل إلى مرحلة بناء الدولة، أو مرحلة الاستقلال، وبالتالي فإن الخلاف مع الاحتلال هو في بعض التفاصيل، وهنا يكون للمنظمة دور آخر.

إن الاتفاق على طبيعة المرحلة يحدد الإستراتيجية التي يفترض أن يتبعها الفلسطينيون مستقبلاً، وبالتالي يحددون طبيعة أدواتهم المستخدمة ومنها المنظمة.

وفي ظل عدم الاتفاق على تشخيص الوضع الحالي للقضية الفلسطينية، انتقلت م. ت. ف. من شيء يجمعنا، أو يجب أن يجمعنا بالتعريف، إلى شيء نتقاتل عليه، وبالتالي نختلف على دورها وعلى علاقاتها بأدوات النظام السياسي الأخرى. لكن الواضح أياً كان ذلك التشخيص، وأياً كان شكل الإصلاح الذي تتصوره الأطراف الفلسطينية المختلفة للمنظمة فإن حجر الزاوية في إصلاحها هو فصلها تماما عن السلطة، وإبقائها الهيئة العليا لتمثيل الفلسطينيين في داخل فلسطين وخارجها.

مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 19/5/2010