مدة القراءة: 9 دقائق

تقدير استراتيجي رقم (19) – كانون الثاني/ يناير 2010.

ملخص التقدير: على الرغم من تعدد التقارير الدولية الداعمة للحق الفلسطيني، إلا أن تقرير جولدستون حظي باهتمام خاص لكونه يصدر عن هيئة رسمية دولية؛ وهو ما يتيح إمكانية ملاحقة “إسرائيل” وقادتها في المحاكم الدولية وعدد من البلدان الغربية، على جرائم الحرب والمخالفات التي ذكرها التقرير.

اتخذ السلوك الإسرائيلي تجاه التقرير الشكل المعتاد في إنكار التهم والتمرد على الإرادة الدولية، مدعوماً بالموقف الأمريكي، بينما بدا الموقف الأوروبي منقسماً وغير منسجم مع ذاته فيما يتعلق بشعارات العدل وحقوق الإنسان. أما موقف السلطة الفلسطينية فقد كان بالغ الحرج، وهدفاً للغضب الشعبي العارم، مما جعلها تتراجع عن موقفها لتنسجم مع التيار الشعبي العام. أما حماس فدفعت باتجاه دعم التقرير على الرغم من تحفظاتها الأولية عليه.

يعكس تقرير جولدستون حالة تزايد الوعي بأهمية الاستفادة من القانون الدولي والمحافل الدولية في خدمة القضية الفلسطينية، كما يضعف قدرة “إسرائيل” في استخدام خياراتها العسكرية والتدميرية في حروبها المقبلة، غير أنه يفتح المجال لملاحقة المقاومة وقادتها بسبب اتهامهم بالإرهاب وارتكاب جرائم حرب.

مقدمة:
للقضية الفلسطينية تاريخ حافل مع مداخلات الأطراف الثالثة والوسطاء والتقارير وأصحاب الشهادات الدولية. بعض هذه المداخلات تختص بتوصيف الصراع على أرض فلسطين ومحيطها بعامة، أسبابه وبواعثه وتطوراته، وقد تنتهي بمقترحات للتسوية. ومنها قديماً تقرير لجنة كنج كرين (آب/ أغسطس 1919) وتقرير اللجنة الملكية البريطانية (تموز/ يوليو 1937) وتقرير الكونت فولك برنادوت (أيلول/ سبتمبر 1948)، وربما اندرجت تقارير وبيانات اللجنة الرباعية الدولية المعاصرة تحت هذا الباب.

هذا في حين نجد مداخلات أخرى وقد انبرت للإضاءة بقوة حول مناسبات بعينها وقضايا جزئية، فيما يشبه التحقيقات القضائية أو الجنائية الميدانية بغرض تثبيت مواقف قانونية بالإحالة إلى المرجعيات الحقوقية ذات الصلة. ومنها قديماً تقرير اللجنة العسكرية البريطانية في اضطرابات القدس (نيسان/ أبريل 1920) وتقرير اللجنة الدولية حول حائط البراق (1930)، وهناك حديثاً تقارير جورج ميتشيل في مستهل الانتفاضة الثانية. ولعل أكثر هذه التقارير شهرة وذيوعاً، قبل تقرير ريتشارد جولدستون الذى ينتمي إلى هذه النوعية، توصية محكمة العدل الدولية بشأن جدار الفصل الاستيطاني العنصري الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة (تموز/ يوليو 2004).

هذه التقارير بأنماطها أثارت في حينها أصداء وردود أفعال متباينة بين الرضا والغضب؛ القبول والرفض؛ الاتساع والمحدودية، لدى مختلف الأطراف المعنيين. وفي هذا الإطار، ربما كان تقرير جولدستون في طليعة التقارير الأوفر حظاً لجهة الأصداء والتفاعلات المتدحرجة الفارقة، من حيث الاتساع والشهرة، والاصطكاك الشديد بين المواقف ووجهات النظر والجدل، بين الأطراف المنغمسين مباشرة في القضية من جهة، وكذا بين القوى والتيارات داخل كل طرف من جهة أخرى.

في التقرير.. الأصداء والتوظيف:
السيرة الذاتية للتقرير تعود إلى إنشاء اللجنة المختصة به عن طريق مجلس حقوق الإنسان (وهو إحدى المؤسسات الرسمية التي تتبع الأمم المتحدة، وتتكون من 47 دولة) في نيسان/ أبريل 2009، بهدف التحقيق في الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة أواخر 2008 وأوائل 2009، برئاسة القاضي اليهودي الجنوب أفريقي، وإلى حين اكتمال التقرير وصدوره في منتصف أيلول/ سبتمبر 2009، ثم الأصداء المترتبة عليه. هذه السيرة تقدم نموذجاً فذاً لاستعداد أطراف القضية الفلسطينية لتوظيف المدخَلات (والمدخِلات) الدولية في السجال الدائر فيما بينهما وداخلها. ومع عمومية هذا التقدير وصدقية سريانه على كل الأطراف، إلا أن التفاعلات التي تمخضت عنه بينت أن الساحة الفلسطينية كانت الأكثر حساسية وقابلية لهذا التوظيف وبأسلوب انفعالي قليل التدبر.
لقد أورد التقرير وصفاً شاملاً للعمليات العسكرية الاسرائيلية التي شنت على غزة، وخص بالتحليل الدقيق 36 حادثة في هذا السياق، مستنتجاً أن هذه العمليات:

1. استهدفت شعب غزة بأكمله بما يعنى أنها شكلت عقابا جماعيا للسكان.
2. انتهكت وثائق جنيف الخاصة بحماية المدنيين.
3. قامت بأعمال من القتل العمد والتعذيب وتدمير الممتلكات واستخدام الفلسطينيين كدروع بشرية وإطلاق النار على مدنيين ومئات المصلين دون مبررات عسكرية.

وانتهى التقرير إلى أنّ “… بعض هذه الحوادث تحمل مسئولية شخصية (لمرتكبيها) وقد ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية…”، ولكن “…لا توجد دلائل قانونية…”.
كذلك، التفت التقرير إلى الجبهة الأخرى فأشار إلى أن  الفصائل الفلسطينية المسلحة – التي وصفها بالإرهابية- قد وجهت 8 آلاف قذيفة ضد المستوطنات الإسرائيلية من غزة بين 2001 و2008. وقرر أنّ هذه الأعمال، فضلاً عن الاحتفاظ بالأسير جلعاد شاليط، تمثل مخالفة للمواثيق الدولية.

 وقد طالب التقرير الأطراف المشار إليهم، “إسرائيل” والفصائل، بإجراء تحقيقات فيما نُسب إليهم والرد خلال ستة شهور، وإلاّ أحيل الأمر إلى المحكمة الجنائية الدولية التي ستتولى مهمة المحاسبة.

وبالرغم من أن التقرير قد أكد على ما جاء في تقارير سابقة صادرة عن منظمات غير حكومية؛ غير أنه التقرير الأول الذي يصدر عن هيئة رسمية دولية تعد جزءاً من الأمم المتحدة، وهو ما يميزه بصورة أساسية عن غيره من التقارير. ومن هنا يعتبر التقرير خطوة مهمة باتجاه تأكيد العدالة الجنائية الدولية من قبل مؤسسة تتبع الأمم المتحدة، ويمكن أن يُضاف بذلك إلى قرارات دولية أخرى ذات صلة بالقضية الفلسطينية.

بمجرد صدور هذه البيانات الأساسية، وقبل أن يطالع المخاطبون والمعنيون التقرير في صيغته النهائية ظهرت ردود أفعال عنهم، راوحت بين الرفض بثبات (“إسرائيل” والولايات المتحدة)، والتقافز إلى حد التناقض بين الرفض والقبول (الموقف الفلسطيني بشكل استثنائي)، والتربص والتذبذب شبه العشوائي (المواقف العربية والأوروبية)!.

فمن ناحية، كانت “إسرائيل” الطرف الأكثر تشدداً في رفض التقرير ومهاجمته وتقريع معديه وعلى رأسهم جولدستون نفسه، واصفة إياهما باللاموضوعية والتمييز، والمساواة بين حالة الدفاع عن النفس التي تتخذها وبين الإرهاب الذي تمارسه الفصائل الفلسطينية.

بهذا الموقف أكدت “إسرائيل” تمترسها عند نظريتها وأسلوبها القديمين، التقليديين، في التعاطي السلبي مع القانون الدولي وشرعة حقوق الإنسان والمواثيق الدولية والمنظمات الساهرة على هذه الحقائق.

نود القول بأن “إسرائيل”، مدعومة مجدداً بالسياسة الأميركية، أثبتت اتساقها مع نفسها؛ مع سلوكها، تجاه الشرعة الحقوقية الدولية بكل أطرها ومضامينها. وذلك بغض النظر عن الحالات والمناسبات التي قد تفتح لها مجالاً لإدانة بعض الأعداء، كالفقرات الدامغة لفصائل المقاومة بالإرهاب في تقرير جولدستون. وهى قلبت كل حجر لمنع مناقشة التقرير في مجلس حقوق الإنسان وبقية أجنحة الأمم المتحدة، وجيشت محاسيبها رسمياً وشعبياً في عواصم الآخرين لنصرتها ضد التقرير ومحاولة وأده. وضغطت على السلطة الفلسطينية في هذا الاتجاه باستخدام أقسى وسائل الابتزاز، بما في ذلك التلويح بفتح ملفات شخصية تشوه رئاسة السلطة وأركانها الموصوفين بالاعتدال، وعلى رأسهم محمود عباس شخصياً.

هذا الثبات الإسرائيلي في مناهضة الشرعية الدولية وممثليها كان، من ناحية أخرى، بعيداً تماماً عن التعامل الفلسطيني مع التقرير، سواء من جانب حركة حماس في غزة أو السلطة في رام الله.

فعندما تشكلت لجنة جولدستون، أعلنت حماس بأن لجنة يقودها رجل يهودي لن تكون حيادية، وأن الحركة لن تقبل أحكامها، وهذا ما جرى بالفعل فور صدور التقرير. وكان مما أثار سخط حماس بالذات إشارة التقرير في فقرته رقم 108 إلى “… إن الهجمات التي تشنها جماعات فلسطينية مسلحة تطال سكان مدنيين، وتشكل جرائم حرب وربما جرائم ضد الإنسانية…”. هذا فضلاً عن استطراد التقرير إلى تجريم ممارسات حماس ضد معارضيها المحليين، التي تتطلب بحسبها التحقيق والمساءلة. وكان هذا التقدير موضع سؤال عن موقف الحركة فيما لو مارست محكمة لاهاي أعمالها وأدانتها بارتكاب جرائم ضد الإنسانية واستدعت بعض قياداتها للمحاكمة؟!.

غير أن حماس عدلت سريعاً عن تحفظاتها بعدما تم تسليط الضوء من قبل حقوقيين كبار ومؤسسات حقوقية دولية على ما يحويه التقرير من إمكانية تجريم “إسرائيل” وقادتها في المحاكم والهيئات الدولية، وأنه يحشر أكثر سبعةً من تقارير “إسرائيل” في الزاوية القانونية، كما أثار ارتيابها وارتياب المتخصصين ومختلف الشرائح الفلسطينية والعربية حين علمت بطلب السلطة من مجلس حقوق الإنسان تأجيل مناقشة التقرير إلى دورته التالية في آذار/ مارس 2010. فقد انتقلت الحركة من مربع الرفض والتحفظ إلى مربع التأييد والإشادة. وأدانت موقف السلطة على نطاق واسع، وشاركتها في هذه الانتقالة معظم الفصائل الفلسطينية والقوى الحزبية والشعبية.

وبالنظر إلى الحرج البالغ والموقف الضعيف الذي وجدت فيها السلطة نفسها أمام الغضب الشعبي الجارف فقد تحولت السلطة بدورها إلى العطف على التقرير، وراحت تبحث عن مبررات لتوجهها السابق بترحيله إلى فترة لاحقة، وعدلت إلى طلب مناقشته وهو ما حدث بالفعل.

في غضون هذه المراوحة، دخلت القوى السياسية الفلسطينية في حبائل التلاوم وتبادل الاتهامات بالتقصير في جنب حقوق الإنسان الفلسطيني، والمسؤولية عن دماء الشهداء وعذابات الأهل في غزة، وعن تعثر الحوار الوطني.

ومن ناحية ثالثة، يصح الاعتقاد بأن الموقف العربي كان صدىً للتذبذب الفلسطيني. فالدول العربية، بمنطوق وشهادة مسؤولين فلسطينيين كبار، مالت إلى ترحيل التقرير وضغطت في هذا الاتجاه، لكنها تنصلت من هذا الميل فور أن استطلعت ردود الأفعال الشعبية في الاتجاه المعاكس، ووقفت جميعاً إلى جانب مناقشة التقرير واعتماده في مجلس حقوق الإنسان دون أن تشذ دولة واحدة عن هذا الإجماع. وكان هذا موقفاً لافتاً يصح البناء عليه في القضايا المشابهة.

ومن ناحية رابعة، بدت أصداء التقرير كاشفة للمراوغة الأوروبية تجاه قضية حقوقية دولية بالغة السخونة. ففي سياق الجدل النظري الذي ساد غداة صدور التقرير، اتخذ الأوروبيون جانب التربص مع الاقتراب نسبياً إلى الرأي القائل بتأجيل النظر فيه، بزعم تأثيراته السلبية على عملية السلام واحتمالات استئناف التفاوض الإسرائيلي الفلسطيني. بيد أن هذا الموقف فقد قوته ولم يعد مفيداً عند إعادة التقرير إلى ساحة النقاش في مجلس حقوق الإنسان، فقد تعين على الأوروبيين تحديد مواقفهم منه عند التصويت عليه بالمجلس (16/10/2009). وحينها تبين أنهم ليسوا على قلب موقف واحد، إذ انقسموا على أنفسهم بين قابلين باعتماد التقرير ورافضين لذلك وممتنعين وغائبين عن التصويت.

ملاحظات لابد منها:
على ضفاف تقرير جولدستون، طالعنا تناظراً كثيراً وفيضاً في الرؤى والتقديرات القانونية والسياسية، التي لم يخل بعضها من نفحات إعلام الأزمات والتسطيح الفكري والحقوقي. وفي إطار التدبر والاجتهاد غير المتشنج حول التقرير وتداعيته، ثمة فرصة للإدلاء بالملاحظات التالية:

الأولى: أن التقرير يثير الشبهات حول سلوك “إسرائيل” الإجرامي، لكنه لم يستخدم لغة قطعية حاسمة الدلالة في هذا المضمار. وربما كان صاحبه جولدستون أكثر المتجادلين واقعية بهذا الخصوص فهو قال حرفياً “… إن نتائج التحقيق ليست دليلاً مثبتاً فى حال نظرت فيها المحكمة الدولية. فالتقرير مجرد خريطة طريق مفيدة للتحقيقات التى يجريها الطرفان المعنيان…”.

الثانية: أن التقريرقارب سلوك حماس وفصائل المقاومة بلغة اتهامية أكثر تحديداً؛ إذ رمى هذه المنظمات بالإرهاب وأفرغ عملياتها من مفهوم المقاومة المشروعة. وهذه حقيقة خطيرة الدلالة مستقبلياً.

الثالثة: أن السلطة الفلسطينية، شأنها شأن بقية النظم العربية، ليست محصنة ضد الخضوع للضغوط واحتمالات لي الذراع الخارجية، لكنها في الوقت ذاته، لا تملك معاكسة  الرأي العام الداخلي وأشواقه إذا ما اتخذ هذا الرأي مظهر الجدية والغضب إلى مستوىً ينذر بالانفجار. وربما تأكد أيضاً أن الاستجابة لهذه الأشواق تقيها الشرور الواردة أو المتوقعة من الخارج. فقد تراجع الرئيس الفلسطيني عن قرار تأجيل التقرير، وتم التصويت عليه وتبنيه، ولم تنفذ “إسرائيل” ولا الولايات المتحدة تهديداتهما بحقه.

الرابعة: أن الموقف من التقرير وتوابعه شكل اختباراً للخطاب الحقوقي الغربي بعامة؛ الرسمي منه بالذات. فالتقرير أربك هذا الخطاب بشدة وساق أصحابه لاتخاذ مواقف متباينة بوضوح ودون لبس.

التقرير وآفاقه المستقبلية:
الحق أن المخاطبين بالتقرير لم يدعوا فسحة كبيرة أمام المعنيين برسم السيناريوهات وبناء التصورات، حول الكيفية التى سيتعاملون بها مع هذا التقرير من حيث الشكل والمضمون. فردود أفعالهم العاجلة حملت فى طياتها أبعاداً تنم عما يضمرونه من رؤى وخطوات مستقبلية (استراتيجية إن جاز التعبير) بشأن هذه الكيفية.

فالرفض الإسرائيلي للتقرير، والمقترن بحملة دبلوماسية ودعائية جبارة لنبذه ومقاومته ومحو آثاره، لا يعبر عن  معالجة عابرة له بحد ذاته، لأنه لايجرمها بشكل دقيق وحاسم… الأقرب للمنطق هو أن نفهم هذه المعالجة فى سياق أشمل هو العصيان الإسرائيلي بالمطلق للشرعية الدولية، والعزوف عن التجاوب مع أية شاردة وواردة تؤشر لخضوعها لهذه الشرعية. ومع ذلك فإنه فيما يتعلق بواقعة التقرير فربما اتخذت “اسرائيل” ثلاث خطوات بعينها: أولاها، الدأب على محو تنديده بسلوكها من الذاكرة الدولية بالتوازي مع التركيز على إدانته للمقاومة الفلسطينية؛ ثانيها، تلمس السبل المؤدية إلى محاكاة التوجه الأميركى القاضى باستبعاد إخضاع ضباطها وجنودها لغير المجال الحقوقي القضائي الداخلي؛ ثالثها، المناورة القضائية الشكلية عبر إجراء تحقيقات حول ماجرى فى غزة بهدف الالتفاف على التقرير والادعاء بأنها أوفت بما يفرضه عليها من استحقاقات.

وعلى الصعيد الفلسطيني، فإن الأرجح أن يظل التذبذب وفقدان الاتجاه سيدي الموقف… اللهم إلاّ إن مضت السلطة الفلسطينية فى رفع الملف الفلسطينى برمته إلى النظام الدولي على نحو جدي، محاولةً الاستفادة من الأسانيد الحقوقية المتراكمة لصالح القضية الوطنية. فعنئذ تمسي للتقرير فائدة كبيرة فى تعزيز هذه الأسانيد. وليس من المتوقع أن تظهر فصائل المقاومة، حماس بخاصة، خشية إزاء رميها بالإرهاب… الأمر الذى ينسجم وترحيبها بالتقرير رغم سلبيته النسبية تجاهها. ذلك أن ثقة هذه القوى محدودة، إن لم تكن منعدمة، فى سيرورة العدالة الدولية تجاه أداء الحقوق الفلسطينية. وقد جاء ترحيبها المتأخر بالتقرير عن رغبة فى توظيفه فى الصراعات الداخلية وإحراج سلطة حركة فتح أكثر من قناعتها باحتمال تطبيقه.

والشاهد أن القضية الفلسطينية لم تكن  قبل صدور تقرير جولدستون تعاني عموماً من نقص في حجيتها القانوينة والأخلاقية، فأرفف المحافل الدولية تزخر بالقرارت والتقارير التي تكفي وزيادة لإدانة “إسرائيل” وسلوكها الهمجي. ومن أبرز هذه الأضابير توصية محكمة العدل الدولية عام 2004 بلا شرعية ولا مشروعية جدار الفصل الإستيطاني العنصري في الأراضي المحتلة عام 1967. وإنما تكمن نقطة ضعف القضية في العجز السياسي والافتقار إلى بدائل فلسطينية معززة عربياً، تتصدى للضغوط الغربية، الأمريكية بخاصة، وتسعى لتعديل موازين القوى مع الجانب الإسرائيلي، بما يرفع ثمن الاحتلال والانتهاكات القانونية إلى مستوى لا تقدر “إسرائيل” على تحمله مادياً ومعنوياً.

 معظم القوى الفلسطينية تعتنق هذه القناعة، ولذا ثمة مبرر للاعتقاد بأن تقرير جولدستون  لن يمثل عند هذه القوى أكثر من إضبارة مضافة إلى التراث الحقوقي المعرّض للالتحاق بقائمة الحجج المهجورة والمتقادمة، رغم أنه لا يفقد بذلك إمكانية اللجوء إليه ضمن الملف الحقوقي السمين للقضية إذا ما انعقد العزم على ذلك كما أشرنا.

ولا يبشر ارتباك العالم الغربي، لاسيّما الشق الأوروبي منه، بتغير فى الأجلين القريب والمنظور ينذر “إسرائيل” بعقوبات لقاء انتهاكها لقوانين الحرب والسلام. وقد تأكد هذا التوقع سريعاً عندما عدل الأوروبيون عن تبني مقترح  للاعتراف بالقدس عاصمة للدولة الفلسطينية طرحته السويد للمداولة فى أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر 2009، مفضلين الانحياز للرؤية الإسرائيلية التقليدية التى تجعل من التفاوض الثنائي مع الفلسطينيين الوسيلة الأمثل للتسوية النهائية على المسار الفلسطيني.

 وتبدو الجماعات الحقوقية المدنية العربية وغير العربية المتضامنة مع القضية الفلسطينية، الطرف الأكثر ترشيحاً لإضافة التقرير إلى ملفاتها الساعية لمحاججة “إسرائيل” والتشهير بسلوكها “المعيب” حقوقياً. وسوف يكون لصنيع من هذا القبيل تأثيرات مزعجة لهذه الأخيرة، اذا ما أفلحت هذه الجماعات فى دفع المحاكم ذات الاختصاص بالجرائم الدولية إلى ملاحقة المسؤولين الإسرائيليين.

وفى تقديرنا أن اللغط الذي أثير حول التقرير لا يقطع الطريق على الذين يريدون تنشيطه وتفعيله، وأن المجال الحقوقي مفتوح على إمكانية الاستفادة منه فى مساءلة “إسرائيل” وقادتها وربما تجريمهما، من خلال عرضه في الدعاوى أمام جميع المحافل القضائية ذات الاختصاص الدولي، كما هو حال بعض المحاكم  الأوروبية، والوصول به إلى المحكمة الجنائية الدولية بتحريك دعوى فلسطينية، مدعومة عربياً وإسلامياً وعالمثالثياً. وكلما عجل المعنيون بهذه الخطوات، آخذين بعين الحسبان مايجرى فى مهلة الشهور الستة المسموح خلالها بالتحقيقات الداخلية، كانت النتائج أفضل.

مقترحات:
1. إقامة نظام قضائي فلسطيني مستقل ونزيه، وإجراء تحقيق داخلي، خطوة ضرورية من أجل ملاحقة “إسرائيل” أمام القضاء الدولي والأوروبي.
2. إجراء التحقيقات اللازمة، خلال فترة ستة شهور، يسهم في إعادة تحريك ملف التقرير بما يمكن الجانب الفلسطيني من استثمار زخم ملاحقة “إسرائيل” أمام المحاكم الدولية والأوروبية على خلفية جرائمها المتعددة في قطاع غزة.
3. الاستناد إلى تقرير جولدستون، إضافة إلى غيره من التقارير الدولية، في إنشاء قضايا جنائية، عامة وخاصة. واستخدام القضاء الدولي والأوروبي كجبهة مواجهة جديدة ضد قادة “إسرائيل” وكبار ضباط جيش الاحتلال.
4. استخدام المادة القانونية الواردة في تقرير جولدستون وغيره من التقارير، مادة دعائية، تكشف صورة “إسرائيل” البشعة، وتؤثر على مكانتها وسمعتها، خصوصاً أمام الرأي العام الدولي.

* يتقدم مركز الزيتونة للدكتور محمد خالد الأزعر بخالص الشكر على كتابته النص الأساسي الذي اعتمد عليه هذا التقدير.

مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 4/1/2010