مدة القراءة: 10 دقائق

بقلم: عوني فارس.

غمرت كثيرين في العالمين العربي والإسلامي في السنوات القليلة الماضية فرحةٌ عارمةٌ نتيجة لما فُهم أنَّه عودة تركيا للعب دورٍ محوريٍ في قضايا المنطقة، على الرغم من اعتقاد آخرين بأنّ تركيا  لم تغادر حتى تعود، فحقائق الجغرافيا ووقائع التاريخ وتطلعات الشعب التركي كانت وما زالت تؤكد صدق انتماء هذا البلد لعالمه الإسلامي، لكنَّها خيارات النخب السياسية في لحظة تاريخية معينة، وضمن موازين قوى من النوع الذي ساد في النصف الأول من القرن الماضي هي ما انتزع تركيا من الحضن الدافئ وأجبرها على ترك دورها المحوري الذي مارسته على مدى مئات السنين.

 ويبدو أنَّ ما أدهش العرب والمسلمين منذ صعود حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم في العام 2002م هو جملة المواقف التي سارعت تركيا لاتخاذها تجاه ملفات المنطقة الساخنة وتحديدًا القضية الفلسطينية، الأمر الذي دفع الكثير من المحللين للاعتقاد بأَنَّ ساسة تركيا الجدد قاموا بانقلابٍ أبيضٍ على أسس السياسة التركية الخارجية.

إنَّ فهم أبعاد وحدود  الموقف التركي من القضية الفلسطينية ومدى قدرته على إحداث اختراق إيجابي يسهم في تحقيق الاستقرار في المنطقة ورفع الظلم الواقع على الشعب الفلسطيني منذ عشرات السنين؛ يتطلب قراءة واعية للقواعد العامة التي تحكم السياسة التركية الخارجية، مع الأخذ بعين الاعتبار بأننا لا يمكن أن نعزل هذا الموقف عن باقي المواقف الأخرى المتعلقة بالقضايا الملتهبة؛ مثل العراق ولبنان وغيرهما. كما أننا لا يمكن أن نغفل جملة التحولات التي طرأت على المشهدين الإقليمي والدولي خلال السنوات القليلة الماضية والتي أدت إلى عملية فرز جديدة لمواقف وأدوار دول المنطقة والحركات السياسية الفاعلة فيها.

محددات الموقف التركي من القضية الفلسطينية:
لا شك بأنَّ إعادة تركيا “الكمالية” لقراءة دورها الإقليمي وربما العالمي وإقرارها بضرورة تجاوز المواقف التقليدية التي حكمت السلوك الدبلوماسي التركي منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وما يعنيه ذلك من انفتاحها على “الفضاءات العثمانية” في الجنوب وانخراطها في معالجة الملفات المستعصية في المنطقة قد لفت أنظار المهتمين بشؤون المنطقة، وفتح الباب على مصراعيه لأكثر من تحليل.

ولعل ملاحظة الخلفية الفكرية والسياسية لقادة تركيا الجدد الذين وصلوا لسدة الحكم في مرحلة تحولاتٍ إقليميةٍ ودوليةٍ كبرى وتتبع السلوك الدبلوماسي التركي فيما يخص القضية الفلسطينية – موضوع اهتمام هذا المقال – سيمكِّن من فك رموز السياسة الخارجية التركية وإزالة اللبس الذي اعترى البعض، بفعل عنصر المفاجأة من حجم التحول في الموقف التركي، وتقديم تحليل أقرب إلى الموضوعية والواقع وبعيدًا عن العاطفة. وهنا لابد من الانتباه إلى الملاحظات التالية:

أ‌.  تتبنى السياسة الخارجية التركية الجديدة مبدأ الانفتاح على جميع دول الجوار الإقليمي، في مخالفة صريحة لسياستها القديمة ذات البعد الواحد، والتي انحصر اهتمامها في إطار التفاعل داخل حلف شمال الأطلسي والعمل الدؤوب من أجل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وقد سبق هذا الانفتاح قيام الدبلوماسية التركية بإعادة قراءة ذاتية لمكنونات القوة التركية وطبيعة التوازنات الإقليمية والتحولات في العلاقات الدولية التي تشير إلى دخول العالم في مرحلة تعدد الأقطاب وإلى الأجواء المواتية دوليًا وإقليميًا لمشاركة تركية واسعة في رسم معالم مستقبل المنطقة برمتها، ويمكن الإشارة هنا إلى المراجعات التي أعدها أحمد داود أغلو قبل فترة زمنية من توليه منصبه الحالي، والذي وصف من قبل وسائل الإعلام بأنَّه مهندس الانقلاب على أبجديات الدبلوماسية التركية التقليدية.

ب‌. عبَّر القادة الأتراك في أكثر من مناسبة عن إيمان تركيا بحق شعوب المنطقة بالعيش بأمن وسلام بما فيهم الشعب الفلسطيني، ويُنظر لتحقيق السلام والاستقرار كأولوية ضمن رؤية تركيا الإستراتيجية للمنطقة، وحسب القادة الأتراك فإنَّ تحقيق الهدوء والاستقرار سيجلب المنفعة لشعوب المنطقة بأسرها، ومن ضمنها تركيا التي ستجني الفائدة الكبرى، إذ سيمنحها الهدوء هامشًا أكبر لتوسيع نفوذها، فمثلاً ستجني تركيا منافع اقتصادية كبرى في حالة تحقيق قدر كبير من الاستقرار، كون الاقتصاد التركي من أقوى اقتصاديات المنطقة وقدرته الاستثمارية عالية، وهذا ما يتوقعه العديد من المحللين الاقتصاديين الذين أشاروا كما جاء في صحيفة المستقبل اللبنانية في يوم الأربعاء 28 تشرين أول 2009م إلى دخول تركيا في قائمة أقوى ستة عشر اقتصادًا في العالم، وأنَّ اقتصادها هو السادس على مستوى أوروبا، ونتاجها القومي الإجمالي وصل إلى 800 مليار دولار، وحجم استثماراتها في أسواق دول الجوار في تصاعد مستمر. 

ت‌. تتطلع النخبة السياسية التركية ذات المرجعية الإسلامية لدورٍ تركيٍ محوريٍ في المنطقة، وذلك من خلال الانخراط المباشر في معالجة الملفات الساخنة كجزء أساسي من استحقاقات هذا الدور، ولعل ملف الصراع في فلسطين هو قارورة اختبار لمدى فاعلية ووزن أية قوة ترغب بالقيام بدور بارز، وهذا ما يتطلب جهدًا تركيًا مضاعفًا واستغلالاً صحيحًا لرصيدها من التجربة التاريخية وامتدادها الجغرافي وشبكة علاقاتها المتشعبة مع دول الجوار والقوى الدولية. 

ث‌. تتطلب عودة تركيا للعب دور رئيس في المنطقة إعادة صياغة علاقاتها مع دول الجوار وخصوصًا صاحبة النفوذ، وإذا كان واقع النظم العربية يسمح لتركيا بهامش واسع من التحرك وعرض الرؤى والحلول، على قاعدة التاريخ المشترك والوحدة الجغرافية وتبادل المصالح، فإنَّ هامش الاختلاف المقبول إسرائيليًا ضيق للغاية، وتاريخ المنطقة يؤكد استعلاءً إسرائيليًا لا يسمح لرؤى إقليمية مخالفة فيما يخص القضية الفلسطينية، فتل أبيب تعتبرها خطًا إسرائيليًا أحمر لا يمكن تجاوزه، وتركيا ومن موقع السيادة والحضور الإقليمي القوي، لن تقبل بسلوك إسرائيلي متعجرف يندرج في إطار الاستخفاف بجهودها الدبلوماسية أو الانتقاص منها.

ج‌.  يستند التحرك الدبلوماسي التركي إلى قرارٍ تركيٍ سياسيٍ مستقل، نابع من دولة ذات سيادة، تنحت خياراتها من تطلعات شعبها، وهذا ما بدا واضحًا ليس فقط على المستوى الإقليمي وإنَّما فيما يتعلق بعلاقات تركيا مع الدول الكبرى، ففي إطار القرار التركي المستقل رفض الأتراك طلبًا أمريكيًا عام 2003م باستخدام أراضيهم كقاعدة لغزو العراق، وتشبثوا بسياسة الانفتاح على سوريا في العام 2005 م رغم الحملة الأمريكية لعزلها، وسعوا لإقامة تحالف ثلاثي يضم بالإضافة إليهم كلاً من سوريا وإيران اللتان تعتبران أمريكيًا وإسرائيليا جزءا من محور الشر وداعمتان للإرهاب العالمي. لذا لن تتعامل تركيا مع دول الجوار ومن ضمنها إسرائيل إلاّ من موقع احترام الذات وعدم المساس بهيبتها وكرامتها الوطنية. 

ح‌.  تفتخر تركيا بكونها دولة ديمقراطية عصرية تؤمن بالمبادئ التي تقوم عليها الدولة الحديثة وبما أقرته الحضارة الإنسانية المعاصرة من مبادئ حقوق الإنسان والحريات العامة وحق الشعوب في الاستقلال؛ لذا تفسر تركيا تدخلها في الشأن الفلسطيني من زاوية معارضتها لفكرة الاحتلال في مرحلة تاريخية وصلت فيها البشرية إلى النضج الكافي لرفض الممارسات القمعية للاحتلال الإسرائيلي، وهذا ما يضع تركيا في مربع المؤازرين لنضالات الشعب الفلسطيني، ويدفعها نحو التحرك من أجل كبح جماح التغول الإسرائيلي المستمر، وقد كان الموقف التركي من الحصار على غزة والحرب الإسرائيلية عليها واضحًا في إدانته لإسرائيل.

خ‌.  تنطلق تركيا في موقفها من القضية الفلسطينية من كونها دولة عضو في الأمم المتحدة ومن واجبها الدفاع عن قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالشعب الفلسطيني، وتَنكُّر إسرائيل لهذه القرارات خلق حالة من التناقض بين الموقفين التركي والإسرائيلي، ودفع تركيا نحو تذكير إسرائيل بمخالفتها الصريحة لقرارات الأمم المتحدة ومطالبة الدول الكبرى القيام بواجبها اتجاه القرارات التي اتخذتها وعدم الكيل بمكيالين.

د‌.  على الرغم من أنَّ المواقف السياسية في تركيا لا تخضع للاعتبارات الدينية لأنَّ الدولة علمانية، إلاّ أنَّ استحقاق الديمقراطية يعطي المزاج الشعبي هامشًا واسعًا للمشاركة في صنع القرار، ونظرة الشعب التركي للقضية الفلسطينية تخضع لعدة اعتبارات على رأسها الموقف الديني، فالفلسطينيون بالنسبة للأتراك أخوة في الدين يتعرضون لأبشع صور الظلم في القرن الحادي والعشرين، وعليهم القيام بواجبهم تجاه إخوانهم المظلومين، وهذا ما بدا واضحًا من حجم تحرك الشارع التركي والمؤسسات الأهلية نصرة للشعب الفلسطيني ورفعًا لمظلمته.

ذ‌.  تلعب الخلفية الإيديولوجية للحزب التركي الحاكم دورًا في صياغة موقفه السياسي، فالخطاب الإسلامي المتعلق بفلسطين والذي تتبناه الحركات السياسية الإسلامية، بما فيها الحركة الإسلامية التركية، لا يشرعن احتلال فلسطين، ويرى فيه قمة العنصرية وجزء من تآمر دولي تقوده الدول العظمى بالتحالف مع الصهيونية لضرب الإسلام واحتلال أرضه، وإنْ كان من مفخرة يعتز بها الإسلاميون الأتراك فهي الموقف العثماني المدافع عن إسلامية فلسطين، ودفع السلطان العثماني مستقبل بلاده السياسي ثمنًا لهذا الموقف، لذا لا غرابة في الموقف التركي الجديد، الذي جاء منسجمًا مع ثقافة النخبة السياسية الجديدة في تركيا.

ر‌.  تمتلك تركيا من المؤهلات التي يمكن أن تساعدها على لعب دور الدولة الإقليمية ذات القوة الناعمة، فهي مدعومة بمنطق الجوار الجغرافي والتاريخ المشترك وقوة حضورها الاقتصادي، وتعطش المنطقة لملء الفراغ الحاصل نتيجة لتراجع دور دول إقليمية كبرى  كان لسياستها قديمًا تأثير واضح في صياغة واقع المنطقة ومستقبلها، ناهيك عن حاجة قوى دولية مؤثرة كالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لدور تركي إقليمي فاعل.

القضية الفلسطينية والدور التركي الجديد:

اتسم الموقف التركي الرسمي من القضية الفلسطينية طوال عشرات السنين بالانحياز للموقف الإسرائيلي في تنكر واضح للمعاناة الفلسطينية، وكان أنْ بادرت تركيا بالاعتراف بإسرائيل بعد أقل من عام من قيامها، في إشارة واضحة للقطيعة مع الإرث العثماني، وظنًَّا بأنَّ تل أبيب بوابة تركيا نحو الانضمام إلى أوروبا وتوثيق الصلة بالولايات المتحدة.

لم تقتصر العلاقات التركية الإسرائيلية على تبادل التمثيل الدبلوماسي بل تشعبت إلى مختلف أشكال العلاقات حتى وصلت حد عقد اتفاق للتعاون العسكري الاستراتيجي في العام1996م، وبدل من المسارعة في الانضمام إلى الجهد العربي والإسلامي المناصر للفلسطينيين، ارتضى الأتراك لأنفسهم أن يكونوا جزءاً من سياسة الأحلاف الدولية المعادية للعرب والفلسطينيين، فعلى سبيل المثال انضمت تركيا لحلف بغداد، ونُظر اليها إسرائيليًا كجزء من تحالف دول أطراف الوطن العربي مع إسرائيل لتطويق المشروع القومي العربي الذي كان واجهة النضال العربي الرسمي من أجل التخلص من الهيمنة الغربية.

إنَّ إجراء أية مقارنة بين موقفي تركيا من القضية الفلسطينية قبل وبعد العام 2002م ، سينبئ عن تحولاتٍ كثيرةٍ، ولعل اللحظة التاريخية التي كانت تمر بها القضية الفلسطينية حينما وصل إسلاميو تركيا إلى الحكم قد ساهمت في الدفع بهذا التحول، وهذا ما سنراه جليًا من خلال تتبع تطور المواقف التركية التي عبَّر عنها زعماء تركيا الجدد في أكثر من مناسبة:

أولاً: القضية الفلسطينية في الخطاب السياسي التركي:
استند الخطاب التركي الرسمي فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية على فكرة رفض الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، ومناصرة الفلسطينيين في نضالهم المشروع من أجل نيل الاستقلال، والدعوة لتوفير الأجواء المناسبة لإنجاح المسيرة السلمية، وضرورة تطبيق العدالة في التعامل مع الشعب الفلسطيني. 

وفي ظل استمرار الممارسات الإسرائيلية العدوانية بحق الفلسطينيين هيمنة روح النقد الشديد لإسرائيل على الخطاب السياسي التركي منذ العام 2002م، وقد استخدم الأتراك مفرداتٍ قاسية، لوصف ما يقوم به الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية، من قبيل الإرهاب والعنصرية والقتل المتعمد والإبادة… إلخ، في حين تصاعدت اللهجة المنددة بالممارسات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين إبان انتفاضة الأقصى، ووصلت ذروتها عندما وصف رجب طيب أردوغان إسرائيل بالدولة الإرهابية في معرض تعليقه على استشهاد الشيخ أحمد ياسين، كما استمرت القيادة التركية في توجيه الانتقادات لإسرائيل سواء في داخل تركيا أو في المحافل الدولية خصوصًا بعد رفض الاحتلال لنتائج الانتخابات التشريعية الفلسطينية الأخيرة، وفرض الحصار على قطاع غزة، وشن حرب عدوانية عليه.

وقد أكدت تركيا على لسان مسؤوليها وفي أكثر من مناسبة من أنَّها ستستمر في انتقاد الموقف الإسرائيلي، كان آخرها ما صرَّح به كبير مستشاري رئيس الوزراء التركي أشاد هورموزلو على قناة الجزيرة في 11 112009م، حينما سئل عن الموقف التركي من السياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، حيث قال بأنَّ تركيا تصارح وتجاهل بموقفها المعارض لأية مسألة تمس مبادئ حقوق الإنسان والمعايير الإنسانية، وما يقال بالسر يقال بالعلن وهذا في مصلحة المنطقة وينسجم مع الرأي العام التركي. وهنا لابد من التأكيد على أنَّ الرأي العام التركي يتبنى خطابًا أكثر تشددًا تجاه إسرائيل، ويمكن ملاحظة ذلك من لهجة الشارع التركي الذي يطالب بإجراءات تركية رسمية أكثر جرأة؛ مثل قطع العلاقات الدبلوماسية بين الجانبين، ووقف كافة أشكال التعاون بين تركيا وإسرائيل.

في المقابل، حرص الجانب الإسرائيلي في البداية على وضع الانتقادات التركية في إطار اختلاف وجهات النظر الذي لا يفسد للود قضية، وبأنَّ تل أبيب عازمة على استمرار التحالف الاستراتيجي بين الطرفين، وبأنَّها ماضية في تعاطيها الايجابي مع المساعي التركية على مسار المفاوضات السورية الإسرائيلية والفلسطينية الإسرائيلية، لكنَّ هذا الحال لم يدم طويلاً، إذ بدأت تُسمع في تل أبيب أصوات منددة بالموقف التركي وتحديدًا فيما يتعلق بموقفها من المجازر التي ارتكبت في غزة، فكانت أزمة تصريحات قائد القوات البرية الإسرائيلية، ثم رفض الاحتلال الإسرائيلي السماح لوزير خارجية تركيا من زيارة غزة، وأخيراً محاولة الضغط على تركيا عبر تهديد مكانتها كوسيط إقليمي مقبول لدى جميع الأطراف ويمكن  للرباعية الدولية الاعتماد عليه، ويظهر ذلك جليًا حين صرَّح رئيس الوزراء بنيامين نتينياهو في 15/11/2009م، بأنَّ تركيا لم تعد وسيطًا نزيهًا بين الطرفين السوري والإسرائيلي.

ثانيا: القضية الفلسطينية والدبلوماسية التركية: 
إنَّ محددات السياسة التركية الخارجية، تعطي مؤشرًا على هامش المناورة التركي فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، فالتزام تركيا بتحقيق الاستقرار في المنطقة دفعها إلى اتخاذ خطوات لتفعيل مسار التسوية بين الفلسطينيين وإسرائيل على أمل أن تفضي المفاوضات إلى تحقيق العدالة التي يتطلع لها الشعب الفلسطيني منذ زمن طويل، لكن عنف الممارسات الإسرائيلية ووحشيتها دفع الأمور إلى مربعات أخرى، فكان أن اتخذت تركيا سلسلة إجراءات انسجمت مع خطابها السياسي نذكر منها:

 على مستوى العلاقات الفلسطينية التركية:

–   التزم الأتراك منذ البداية بالوقوف بجانب الفلسطينيين؛ وذلك من خلال تقديم الدعم المادي والسياسي للشعب الفلسطيني على المستويين الرسمي والشعبي وفي المجالات المختلفة، وقد عملت الدبلوماسية التركية على أكثر من ملف فلسطيني داخلي ، فقدَّمت على سبيل المثال جهدًا هامًا في إطار المصالحة الفلسطينية.

–   انفتحت الدبلوماسية التركية على قوى المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حركة حماس، وقد بدا ذلك واضحًا من خلال الترحيب برئيس مكتبها السياسي خالد مشعل في أنقرة بعد الانتخابات التشريعية الفلسطينية الأخيرة، في وقت أعلنت الرباعية الدولية عن مقاطعة حركة حماس حتى تستجيب لمطالبها، وقد استمرت تركيا في عقد المزيد من المشاورات مع حركة حماس، وتشير الكثير من التقارير الصحفية إلى علاقات طيبة بين الطرفين وبثقة قيادة حركة حماس الكبيرة بالقيادة التركية.

–   أصبحت تركيا مسرحًا للعديد من النشاطات والفعاليات الإسلامية – من العالم الإسلامي وليس الإسلاميين- المساندة للشعب الفلسطيني، فعلى سبيل المثال نُظِّم في إسطنبول لقاءٌ عالميٌ لنصرة القدس والمسجد الأقصى، كما نظَّم الأتراك وبتأييد رسمي علني العديد من الفعاليات المناصرة للفلسطينيين والمؤيدة لرفع الحصار عن غزة من بينها مظاهرات ومهرجانات وجمع تبرعات وإرسال مساعدات …إلخ.

على مستوى العلاقات التركية الإسرائيلية:

حاول الطرفان التركي والإسرائيلي إظهار مدى صلابة العلاقات بينهما، والتأكيد في أكثر من مناسبة أنّها لن تتأثر سلبًا بصعود حزب إسلامي إلى السلطة، وفي هذا الصدد عكست زيارة رئيس الجمهورية التركي غول وكذا رئيس وزرائه إلى تل أبيب والاستقبال الدافئ للمسؤولين الإسرائيليين في أنقرة انطباعًا إيجابيًا.

كما تفاعلت الدبلوماسية التركية بإيجابية مع المسيرة السلمية، وتمكَّنت من ضخ دماءٍ جديدةٍ في جسد المفاوضات، وذلك عبر تدخلها في مسار المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين ورعايتها للعديد من جولات المفاوضات السورية الإسرائيلية، لكنَّ جملة التطورات على القضية الفلسطينية وتحديدًا تصاعد ممارسات الاحتلال القمعية بحق الفلسطينيين وعدم تحقيق أية تقدم على المسار السوري الإسرائيلي، دفع القيادة التركية إلى مربع التشدد حيال المواقف الإسرائيلية، حتى توقع بعض المحللين أن تصل الإجراءات التركية في حال عدم حدوث انفراج ما على صعيد القضية الفلسطينية إلى حد قطع العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين.

وقد أظهرت سلسلة الخطوات التركية تجاه إسرائيل مدى البرود الذي وصلت له هذه العلاقة، بفعل الموقف الإسرائيلي المتشدد حيال المطالب العربية والفلسطينية؛ نذكر هنا بعضًا منها: 
–   اعتذار المسؤولين الأتراك عن تلبية دعوة المسؤولين الإسرائيليين لزيارة تل أبيب، واستدعاء السفير التركي في تل أبيب للتشاور وتوجيه رسالة احتجاج رسمية للسفارة الإسرائيلية في أنقرة في أكثر من مناسبة.

–   منع تركيا الجيش الإسرائيلي من المشاركة في مناورات نسر الأناضول التي أجراها حلف شمال الأطلسي في سهل قونية في شهر تشرين أول 2009م.

–   توجيه رئيس الوزراء التركي أردوغان صفعة سياسية من العيار الثقيل للرئيس الإسرائيلي شمعون بيرس في جلسة النقاش الشهيرة، والتي كانت مخصصة لنقاش تداعيات الحرب على غزة، وقد عقدت على هامش جلسات المنتدى الاقتصادي في دافوس في 29/ كانون ثاني/ 2009م.

–  تعليق اتفاقيات التعاون العسكري بين الطرفين، من بينها اتفاقًا لتحديث الدبابات والطائرات التركية. 

يتضح من كل ما سبق بأنَّ تركيا “الأردوغانية” صوَّبت الموقف الرسمي التركي تجاه القضية الفلسطينية، وبدا جليًا بأنَّها تقف مع الفلسطينيين في نضالهم المتواصل لنيل حقهم في الاستقلال، تستند في ذلك إلى عدة اعتبارات في صلب التفكير الاستراتيجي التركي، يأتي في مقدمتها مصلحتها الإستراتيجية- وهي القوة الناعمة ذات التأثير الكبير- في الوقوف ضد أية  دولة في المنطقة تعربد كيفما تشاء وتمارس أقسى درجات العدوانية والوحشية ضد شعبٍ أعزل دونما اعتراض من أحد.

ولكنَّ السياسة التركية لا تخضع للحسابات العاطفية كما أشار أردوغان في معرض رده على سؤال حول إمكانية قطع العلاقات الدبلوماسية بين تركيا وإسرائيل، وهي محكومة باعتبارات كثيرة محلية وإقليمية ودولية تقلِّص خياراتها وتخفِّض من سقف طموحاتها، وهنا لابد من عدم الإفراط في التوقعات الايجابية التي ستجنيها القضية الفلسطينية من الموقف التركي، فهامش التحرك التركي فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية حتى هذه اللحظة لا يخرج عن معادلة الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني التي نحتها قبل عشرات السنين “فوق الصفر وتحت التوريط”.

إنَّ مواقف النخبة السياسية التركية الجديدة تعطي دروسًا كثيرةً لدول المنطقة، فقد نجحت هذه النخبة في تحويل قوة تركيا الاقتصادية وتاريخها الطويل مع المنطقة وجوارها الجغرافي لها إلى قوة سياسية فاعلة، وهي تتقن اللعب ضمن هامش المتاح سياسيًا، وفي إطار ما نصت عليه القرارات والأعراف الدولية وما تتحمله المنطقة، ودائمًا ما تسعى للبحث في البدائل السياسية، وتصر على الانسجام مع نبض الشارع التركي، مع حذرها الشديد من تبني المواقف العاطفية وغير المحسوبة.

لكنَّ الموقف التركي محدود الفاعلية لن يصبح ذا نتيجة إلاّ إذا سانده فعل عربي إسلامي جاد؛ لأنَّ منطق الأمور محكوم لموازين القوى، وهي منحازة حتى اللحظة لصالح الاحتلال الإسرائيلي، ويبدو أنَّ هذا ما فهمته تركيا مبكرًا فعملت على تمتين علاقاتها مع دول الجوار، فأجرت حوارًا موسعًا مع دول المنطقة، أفضى إلى توقيع تركيا على سلسلة اتفاقيات وتفاهمات الإستراتيجية مع سوريا والعراق وإيران ودول الخليج العربي…إلخ، أمَّا بخصوص الحسابات العقلية، فرغم وجاهة منطق رئيس الوزراء التركي، إلاّ أنَّ تحقيق الهدوء والاستقرار في دول الجنوب التركي يتطلب اتخاذ خطواتٍ تصعيديةٍ أكثر جرأة مستقبلاً في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، فإلى أين يتجه الموقف التركي مستقبلاً؟ هذا ما ستنبئ عنه الأيام القادمة وإنَّ غدًا لناظره لقريب.   

مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 2/12/2009