مدة القراءة: 8 دقائق

تقدير استراتيجي رقم (16) – آب/ أغسطس 2009.

ملخص التقدير: يعد الحلم بـ”أورشليم” العاصمة الموحدة لدولة “إسرائيل” مؤشراً على تجسيد دولة الكيان، وبالرغم من مرور 61 عاماً على قيام “إسرائيل”، ما تزال المعالم الإسلامية والمسيحية حاضرة بقوة داخل المدينة المقدسة.

وفي ضوء الترتيبات النهائية لمسار التسوية، وفي ضوء فزع سلطات الاحتلال من تزايد أعداد المقدسيين، ومن الاختلال المتزايد في ميزان القوى بعد حرب لبنان الثانية 2006 وحرب الرصاص المصبوب على غزة 2008/2009، عاد تأكيد هدف “حسم مصير القدس” كأولوية لدى المجتمع السياسي الصهيوني، حيث تسارعت وتيرة تهويد المدينة على المستويين الجغرافي والديمغرافي؛ معززة بالإجراءات الإدارية والأمنية والجدار.

وبينما يلقى مشروع التهويد دعماً إسرائيلياً رسمياً، في المجالات السياسية والمادية، إضافة إلى التغاضي الدولي؛ تعاني مشاريع التصدي له، ومساعي دعم صمود المقدسيين من الضعف، ومن غياب المرجعية السياسية (الفلسطينية والعربية، فضلاً عن الإسلامية).

وبهذا، فإن مستقبل القدس سيكون أمام ثلاثة احتمالات؛ الأول: نجاح مشروع التهويد في حسم هوية المدينة. الثاني: تعرض مشروع التهويد لمصاعب ومشكلات حقيقية تعيق تنفيذه. الثالث: إفشال مشروع تهويد شرقي القدس وإنهاؤه.

مقدمة:
الحلم بـ”أورشليم” كعاصمةٍ للكيان اليهودي كان يرافق التنظير للمشروع الصهيونيّ منذ نشأته، فـ”أورشليم” كانت التجسيد الرومانسي لحلم الدولة اليهودية الصافية التي “يرعاها الرب”، وكانت العنوان الذي يقود دعاية المشروع منذ انطلاقته. إن الحلم بـ”أورشليم” في العقل الصهيوني يعني باختصار جعلها مدينةً يهودية المعالم والثقافة واللغة والسكان.

بعد مرور 42 عاماً كاملة على بدء البرنامج المنظم لتهويد شرقي القدس، ورغم الإنجازات الكبيرة التي حققها مشروع التهويد على جبهاتٍ متعددّة، ما تزال القبة الذهبية والمسجد الفسيح الذي يغطي جبلاً كاملاً من جبال القدس تسيطر على المشهد، وما زالت مآذن القدس وأبراج كنائسها تشكّل معاً أفق هذه المدينة، وما زالت عمارتها الأصيلة المتواصلة من العصور الرومانية إلى العصور الإسلامية تشكل الطابع الغالب فيها، وما زالت الصلاة في جبل الهيكل لم تتحقق، وما زال اليهود يصلّون في المكان ذاته الذي انتزعوه وصلّوا فيه قبل قيام الدولة، وما زالت الأرجحية السكانية المطلقة بعيدة المنال، على الرغم من كل إجراءات التضييق على السكان من جهة، واستجلاب المهاجرين وإغرائهم بالبقاء من جهةٍ أخرى.

هذه الحقائق المفزعة للصهاينة أطلقت العمل الدؤوب منذ سنة 2002 لحسم مصير القدس “كعاصمةٍ يهوديّةٍ موحّدةٍ” لدولة الاحتلال، فالشعور بالاختلالِ المتزايدِ في ميزان القوى، الذي تكرّس مع حرب لبنان الثانية سنة 2006، وحرب غزّة سنة 2008/ 2009 جعل حسمَ مصير القدس أولويةً أولى لدى المجتمع السياسي الصهيوني بكلّ أطيافه، وأصبحت فكرة خلق “أورشليم” بشكلها النهائيّ تتصدّر لائحة الأولويات، في مقابل التراجع المزمن لقضية القدس على الأجندة العربيّة والإسلاميّة وحتى الفلسطينيّة.


أولاً: مجالات المواجهة… القدس أم “أورشليم”:

على الرغم من أن قضية القدس تضيع في متاهة التفاصيل الكثيرة، من الحفريات إلى المصادرة وتغيير المعالم وطمس هويتها، ومن الاستيطان إلى الجدار والتهجير وسحب بطاقات الإقامة الدائمة في القدس -المعروفة بالـ”هويات”- إلى الضرائب الباهظة وفرض التأمين الوطني، وقانون “مركز الحياة”؛ إلا أن الصراع على المدينة يسير باتجاه حسم هويتها على مسارين أساسيين: حسم الهوية الدينية والثقافية للمدينة، وحسم الهوية السكانية للمدينة.

أ. المواجهة في المجال الدينيّ والثقافيّ:
يسعى المحتل في هذا المجال إلى استبدال هويّةٍ يهوديّةٍ من جميع النواحي الدينيّة والثقافية والمعمارية، بهوية المدينة العربية والإسلامية، ويعمل المحتلّ على تحقيق ذلك من خلال أربعة مسارات من العمل، هي:

الأوّل:  خلق مدينة يهوديّة مقدّسة موازية للبلدة القديمة بمقدساتها الإسلامية والمسيحية، ومشتركةٍ معها في المركز ذاته وهو المسجد الأقصى، ويُطلق الاحتلال على هذا المشروع اسم “القدس أوّلاً” أو “مشروع تطوير الحوض المقدس”.

الثاني: تحقيق وجود يهوديّ دائم ومباشر في المسجد الأقصى ومحيطه؛ وذلك  من خلال الاقتحامات المتكرّرة لمجموعات المتطرّفين، ومن خلال الكنس المقامة على أسوار المسجد وأسفل منه وفي محيطه.

الثالث: تفريغ الأحياء الفلسطينيّة المحيطة بالمسجد الأقصى من سكّانها، والحدّ من قدرة الفلسطينيّين على الوصول إلى المسجد الأقصى والبلدة القديمة.

الرابع: الترويج لمدينة القدس كمدينة يهوديّة: وذلك من خلال تنظيم الجولات السياحيّة في المدينة وفق مسارٍ يتجاهل المقدّسات الإسلاميّة، ومن خلال إقامة مهرجانات واحتفالاتٍ بالمناسبات اليهوديّة الدينيّة والقوميّة.

ب. المواجهة في المجال الديمغرافيّ:
سيطر الهاجس الديمغرافيّ على المحتلّ منذ استيلائه على كامل القدس سنة 1967، وهو يُحاول منذ ذلك الحين تحقيق أغلبيّةٍ ديمغرافيّةٍ يهوديّةٍ مريحةٍ  في المدينة بوصفها عاصمة الدولة، وقد سنّ في سبيل ذلك سنة 1973 قانوناً يُحدّد نسبة الفلسطينيّين في المدينة بـ22%، إلا أنّه لم يتمكّن من تحقيق هذه النسبة أبداً. فاليوم تبلغ نسبة الفلسطينيّين في المدينة 35%، ومن المتوقّع أن تصل سنة 2020 إلى 40%، وذلك بحسب تقديرات المحتلّ نفسه. لذا، فإنّ عامل تعديل التوازن الديمغرافيّ يحتل رأس سلّم أولويّات الاحتلال في المدينة، ويُحرّك معظم مخطّطات البلديّة، وبخاصّة المخطط الهيكليّ للقدس سنة 2020. 
ويعمل المحتلّ اليوم على تعديل التوزان الديمغرافيّ من خلال أربعة مساراتٍ، هي:

الأوّل: تكثيف الاستيطان: يوجد في القدس اليوم بمساحتها الجديدة داخل الجدار-والبالغة بشطريها 289 كم2- 69 مستوطنة تُسيطر على مساحة تُقدّر بـ163 كلم2، ويسكنها حوالي 270 ألف مستوطن.

الثاني: الترويج لمدينة القدس كمركز سكنيّ: تُعدّ القدس مدينة طاردةً للسكان اليهود، فخلال السنوات 1980–2005 بلغت الهجرة السلبية من المدينة حوالي 105 آلاف مستوطن،  ولمواجهة هذا الأمر صادقت حكومة الاحتلال في 7/8/2007 على خطّةٍ  بقيمة 200 مليون دولار، تهدف لجذب السكان اليهود للانتقال والعيش في مدينة القدس.

الثالث: الجدار الفاصل: إنّ الهدف الأوّل للجدار في القدس هو ضمّ أكبر مساحةٍ ممكنةٍ من الأرض إلى الحدود البلديّة للمدينة، مع طرد أكبر عددٍ ممكن من المقدسيين منها. وبالرغم من أنّ المقدسيّين حاولوا مواجهته بشكلٍ تلقائيّ، من خلال الانتقال بأعدادٍ كبيرة إلى الأحياء الموجودة داخله. إلا أنّ الجدار ومع اكتمال بناء حوالي 90% منه، تمكّن من عزل أكثر من 154 ألف مقدسيّ عن مدينتهم، مع مصادرة أكثر من 163 كلم2 من الأراضي الفلسطينيّة.

الرابع: تهجير السكّان الفلسطينيّين: تُعدّ نتائج هذه الطريقة محدودة في معادلة التوازن الديمغرافيّ، ولأن تنفيذها صعب أيضاً ويُثير مشاكل سياسيّة، فإنّ المحتلّ لم يكن يلجأ إليها على نطاقٍ واسع إلاّ نادراً. لكنه أصبح اليوم يميل إلى تبنيها كسياسيةٍ معتمدة، ضمن جهده المستميت لتعديل ميزان الدايمغرافيا، قبل أن تسوء الأحوال أكثر بالنسبة له. ويُهجّر الاحتلال السكان المقدسيين من المدينة عبر أسلوبين رئيسين، هما؛ سحب بطاقات الإقامة الدائمة، أو ما يعرف بـ”الهويات الزرقاء”، والبطاقات التي سُحبت بين سنتي 1967-2006 يبلغ عددها 6,396 بطاقة. أما الأسلوب الثاني فهو التهجير الجماعي، وقد أعادت سلطات الاحتلال تفعيله خلال سنتي 2008 و2009 ليشمل أكثر من 174 عقاراً في خمسة أحياء هي: البستان، والعباسية، والشيخ جراح، والطور، والحي الشمالي للبلدة القديمة.

ثانياً: المشروعات المتصارعة: التثبيت في مقابل التهويد:
يدور الصراع في القدس اليوم بين مشروعين: الأول هو التهويد الذي يسعى لانتزاع المدينة، وإعادة تعريف هويتها الدينية والثقافية والسكانية. والثاني هو مشروع التثبيت الذي يسعى إلى الحفاظ على هوية هذه المدينة.

أ. مشروع التهويد:
يهدف هذا المشروع إلى تحويل مدينة القدس إلى “العاصمة اليهوديّة الموحّدة والأبديّة” لدولة الاحتلال، وهو يسعى لتحقيق ذلك من خلال:

1. الحفاظ على “التوازن الديموغرافيّ في المدينة”؛ أي الحفاظ على الغالبيّة اليهوديّة التي حددتها حكومة دولة الاحتلال سنة 1973 بـ 70% من مجموع السكّان.

2. تهويد هويّة المدينة وطابعها الدينيّ والثقافيّ والعمرانيّ، وفي مقدمة ذلك تهويد المسجد الأقصى والبلدة والقديمة ومحيطهما.
وتتجلى قوة هذا المشروع في أنه يحظى بتغطيةٍ سياسيّة وماديّة بالإضافة إلى الخبرات المتخصصة والدعم القانوني؛

فعلى المستوى السياسي، يتمتع هذا المشروع بإجماعٍ محلي في دولة الاحتلال، ويحظى بالرضا أو على الأقل بالصمت الأمريكي، مع استثناءات قليلة يستنكر فيها الأوروبيون والأمريكيون بعض الإجراءات كهدم المنازل أو الاعتداء على المسجد الأقصى.
أمّا على المستوى المادي، فإنّ هذا المشروع يحظى بدعمٍ رسميّ كبير؛ فبلديّة الاحتلال في القدس وحدها تُخصّص لها ميزانيّة سنويّة تُقدّر بـ 1,019 مليار دولار أمريكي، هذا عدا عن موازنات الجهات الرسميّة الأخرى العاملة في القدس. أمّا المجتمع اليهوديّ و”يهود الشتات” فيُقدّمون لهذا المشروع دعماً سنويّاً لا يقل عن 180 مليون دولار سنويّاً.

وعلى مستوى الخبرات التنفيذية، تتوافر للمشروع كافة عوامل الدعم المهني واللوجستي، مثل الاختصاصيين وأطقم العمل اللازمة. كما يمتلك عوامل القوة القانونية التي توفرها له حكومة الاحتلال وأجهزتها المختصة.

ب. مشروع التثبيت:
ونحن نطلق عليه اسم “المشروع” مجازاً، لأنه في غالبه نابعٌ من ردّ الفعل العفوي والذاتي لأهل المدينة، ويهدف هذا المشروع إلى تثبيت الهويّة العربيّة والإسلاميّة للمدينة، والحفاظ على الوضع القائم فيها لحين تحريرها، وذلك من خلال:

1. دعم السكان المقدسيين؛ ليتمكنوا من البقاء والعيش في المدينة، ومواجهة سياسات التهجير والتضييق، مع الحفاظ على نسبة زيادتهم.

2. الحفاظ على الهويّة الدينيّة والثقافيّة للمدينة؛ من خلال حماية المقدّسات وصيانتها، وحماية العقارات والأملاك المقدسيّة، خاصّةً في البلدة القديمة ومحيطها.

وتنتاب هذا المشروع مجموعة عوامل ضعف، تظهر في غياب الدعم السياسيّ والمادّي؛

فعلى المستوى السياسيّ، تُعدّ منظمة التحرير الفلسطينية، ومن الناحية الواقعية السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة، العنوان الأساس للشعب الفلسطيني؛ كونها الجهة المخوّلة بتمثيل الفلسطينيين والدفاع عن حقوقهم، لكنها ومنذ وفاة فيصل الحسينيّ وإغلاق بيت الشرق سنة 2001، تتعامل مع ملف القدس كملفٍّ مهمل. أمّا الفصائل الفلسطينيّة فتبنيها السياسيّ لملفّ القدس ليس بأفضل حالاً بكثير؛ فهي وإن كانت ترفض التنازل عن المدينة وتعدّها أحد الثوابت الرئيسة في سياساتها، إلا أنّها ما تزال تتعامل مع المدينة كعنوان، دون أن تكون ذات حضورٍ فاعلٍ ومؤثر فيها.
الأردنّ من جهته، يتعامل مع وصايته على المقدسات والأوقاف الإسلامية في المدينة ضمن سقف سياسته الخارجية، التي يفترض فيها أنه بلدٌ محدود القدرات والإمكانات لا يبحث عن المواجهة ولا يعرّض نفسه للضغوطات.

أمّا على المستوى المادي، فيُعاني مشروع التثبيت من غيابٍ شبه كاملٍ للدعم الماديّ، فالسلطة الفلسطينية المسؤولة عن مدينة القدس توقفت عن الدعم في كل القطاعات تقريباً، فهي في ظل القيادة الجديدة باتت تتعامل مع ملف القدس “كعبء” لا طائل منه. أمّا الفصائل الفلسطينية فدعمها المادي للقدس محدودٌ جداً، ولا ينصب في الأولويات الأساسية للمدينة. يتزامن هذا الواقع مع تآكل قدرات المقدسيين الذاتية، بسبب الاستهداف المتواصل الذي يتعرضون له عبر السنوات الماضية.

ويضاف إلى ذلك، ضعف التفاعل الخارجي، بشكل يشعر أصحاب هذا المشروع في القدس، بأنهم متروكون لمصيرهم في مواجهة آلة الاحتلال.

هذا الواقع الصعب، لم يمنع وجود نقاط قوة تعمل لصالح هذا المشروع، من مثل: أن مهمة القائمين على هذا المشروع هي الحفاظ على واقعٍ قائم وموجود، وتعزيز هذا الواقع، دون الحاجة لخلق وقائع جديدة أو إحداث تغيير جذريّ على الأرض. وأنّ السكان المقدسيين مدركون للثمن الذي عليهم دفعه للبقاء في المدينة، وهم مستعدون لتحمل ظروف حياة صعبة وقاسية في سبيل ذلك، الأمر الذي جعلهم يحافظون، منذ الاحتلال، على نسبة زيادة مرتفعة لم تقل عن 3%، ومن المتوقع أن يُحافظوا على نسبة مقارِبة خلال العقدين القادمين.

ثالثاً: السيناريوهات المتوقعة:
السيناريو الأوّل: أن ينجح مشروع التهويد في حسم هوية المدينة. ومتطلبات تحقّق هذا السيناريو هي أن يتمكّن المحتل من تقسيم المسجد الأقصى، وتثبيت مبدأ “حق اليهود” بالصلاة فيه إلى جانب المسلمين، وأن يتمكّن من افتتاح الكُنُس العملاقة في محيط المسجد، ومن استكمال افتتاح الأنفاق التي يعدّها لتصبح مزارات سياحية، وأن يتمكّن من تهجير السكان في المحيط القريب من البلدة القديمة ليؤسس “مدينة داوود” مكان أجزاء واسعة من ضاحية سلوان، وأن يعيد تعريف الحدود البلدية بضم المستوطنات المحيطة جميعها، منتجاً حقيقةً ديمغرافيةً جديدة يصعب التنبؤ اليوم بنتيجتها.

ومن المهم هنا أن نؤكّد أن بدء تقسيم المسجد صار خطوة وشيكة في ضوء الإجراءات والتحضيرات التي يقوم بها الصهاينة؛ حيث جرَت بالفعل مناورة تحاكي إغلاق الساحات الجنوبية للأقصى، فجر يوم 11/6/2009، بحجة أنها “منطقة أمنية مغلقة”. والمتابع للشأن المقدسي يدرك أن الفاصل بين المناورة والتطبيق ليس كبيراً، خصوصاً في ظلِّ الحكومة ورئاسة البلدية الحاليتين.

السيناريو الثاني: أن يواجه المحتلّ مشكلاتٍ حقيقية في تطبيق متطلبات السيناريو الأول، بشكلٍ يعيق تنفيذها ويؤخره، أو حتى يدفعه للعدول عنه بحثاً عن بدائل أخرى، وهذا السيناريو يتطلّب التقاطاً حقيقياً لصمود المقدسيين من خلال الدعم والإسناد المنهجي، وحركةً جماهيريةً فاعلةً داخل القدس تربك المحتلّ، وتحركاً جماهيرياً وسياسياً خارجياً يجعل ثمن تحركات المحتلّ تجاه القدس أغلى وأكثر مما يتوقعه أو يستعدّ له، فيضطر إلى تبني بدائل “أقل تطرفاً” ستمنعه، بكلّ تأكيد، من حسم هوية المدينة.

هذا السيناريو يتطلّب تغييراً في السلوك أساساً من طرف الجهات التي يفترض أنها داعمة للقدس؛ وهو تحول ممكن، لكنه يتطلّب الكثير من الوقت والجهد والمال، وتغيّراً في المفاهيم لدى صانع القرار الفلسطيني والعربي والإسلامي، وقد نكون في الوقت الضائع لتحقّقه الآن.

السيناريو الثالث: أن يتمكّن المقدسيون من حسم هوية المدينة لصالحهم، وهذا يتطلب منع المحتل من تحقيق أي تقدّم على جبهات المواجهة جميعاً، ومواصلة تحقيق التقدم في المجال الديمغرافي، مع إضافة إنجازاتٍ حقيقية في العمران والهوية الثقافية للمدينة. وتحقق هذا السيناريو أقرب للمستحيل في ظل الاحتلال، وفي ظل الواقع السياسي الراهن.

في ظل هذه القراءة، يبقى السيناريو الثاني هو السيناريو الأقرب للتحقق، دون استبعاد السيناريو الأول، فهو يبقى واقعياً، وإن كانت الظروف الحالية ليست مواتية له إلى الحدّ الطلوب. إن معركة القدس اليوم، أصبحت إلى حدٍّ بعيد معركة وقت، لم يعُد المحتلّ يصبر فيها ويُخطّط على مدى عشرات السنين، بل هو ينظر إلى السنوات القليلة الآتية على أنها سنوات حاسمة، وهو إن تمكّن من حسم هوية المدينة خلالها، فسيتكرّس شعوره بالقدرة على البقاء والقابلية للحياة، أما إن فشل خلالها في حسم هذا المصير، فسيبدأ الشعور باليأس من حسم هوية هذه المدينة يتكرّس ويستتبّ لديه، وسيكون لهذا انعكاساتٌ حقيقية على ثقته بديمومته وبقدرته على البقاء، فإن لم تكن “أورشليم” ممكنة، فهل “إسرائيل” ممكنة؟

المقترحات:

* تعريف شعوب العالمين العربي والإسلامي بمكانة القدس وطبيعة التهديدات التي تتعرض لها من قبل الاحتلال الإسرائيلي، ورفع مستوى التفاعل مع ما يحدث لها، بحيث يدرك الاحتلال بأن أي تعدٍّ مباشرٍ على الأماكن المقدسة سوف يجعله يدفع ثمناً قد لا يكون قادراً عليه.

* تفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني، وتقديم المزيد من الدعم والمساندة للمقدسيين، بما يمكّنهم من مواجهة إجراءات الاحتلال؛ من أجل البقاء في مدينتهم، خصوصاً أن العنصر البشري يعد عاملاً حاسماً في تحديد مستقبل المدينة وهويتها.

* تذكير المرجعيات الرسمية (الفلسطينية والعربية والإسلامية) بمسؤولياتها تجاه القدس وأهلها، بما يجعلها تبادر لإطلاق مشاريع التثبيت والدعم؛ على مستوى المباني والأراضي والسكان. ورفع الدعاوى ضد “إسرائيل” وكبار المسؤولين الصهاينة على ممارساتهم العدوانية ضد القدس وأهلها.

* يجب تجاوز الانقسام السياسي بين حكومتي رام الله وغزة، على الأقل في ملف القدس والمقدسيين، خصوصاً أن كلا الفريقين يعلنان تمسكهما بالقدس عاصمة الدولة الفلسطينية.

* إعلان رئاسة السلطة الفلسطينية موقفاً سياسياً واضحاً يؤكد رفض المساس بمكانة القدس وهويتها كعاصمة للدولة الفلسطينية، والتصريح بإسقاط أي اتفاق يهدد مكانة القدس وأهلها.

* يتقدم مركز الزيتونة للأستاذ زياد الحسن، المدير التنفيذي لمؤسسة القدس الدولية، بخالص الشكر على كتابته النص الأساسي الذي اعتمد عليه هذا التقدير.

مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 19/8/2009