مدة القراءة: 6 دقائق

ضرورة عقد المؤتمر وعناصر التعطيل والتأجيل:

كثر الحديث خلال العام 2008 وحتى الآن عن انعقاد المؤتمر السادس لحركة فتح. وكانت الحركة قد عقدت مؤتمراتها الثلاثة الأولى أعوام 1967 و1968 و1971 على التوالي، وعقدت مؤتمرها الرابع عام 1980، والخامس عام 1989. وكان من الواضح أن فتح تعاني من حالة من الترهل والتفكك تستدعي المسارعة إلى عقد مؤتمرها وإعادة ترتيب بيتها الداخلي.

في سبتمبر/أيلول 2004 أوصى المجلس الثوري لحركة فتح بعقد المؤتمر السادس، وتم تشكيل لجنة تحضيرية، غير أن عملها سار بوتيرة بطيئة لأسباب مختلفة. صحيح أن الكثير من كوادر فتح يعوِّل على المؤتمر لإحداث التغيير المطلوب، لكن من الواضح أن أهم مؤسسة تمثيلية وتشريعية في فتح (المؤتمر العام) قد جرى تحييدها وتهميشها منذ العام 1971، حيث لم تتمكن منذ ذلك التاريخ وطوال 37 عاماً من الانعقاد سوى مرتين.

وبالتالي فإن آلية صناعة القرار تركزت عملياً بيد رئيس الحركة ثم اللجنة المركزية ثم -بدرجة أقل- المجلس الثوري للحركة. ولأن عمليات انتخاب هذه المؤسسات القيادية لا تتم إلا عبر المؤتمر العام، فإن عدم انعقاده أتاح لهذه القيادات البقاء في مناصبها سنوات طويلة دونما تغيير.

ضرورة عقد المؤتمر
أصبح من الضروري عقد المؤتمر السادس لفتح بعد نحو 20 عاماً من انعقاد آخر مؤتمر لها، وبعد مرور الحركة -التي قادت النضال الوطني الفلسطيني- بأحداث جسام ووقوع تغييرات ضخمة في مسار العمل الفلسطيني، وتبني قيادة الحركة لأفكار واتفاقيات والتزامات يتعارض عدد منها مع الأدبيات النضالية والمنطلقات الحركية لفتح.

وبعد بروز حركة حماس التي تمكنت من هزيمة فتح في الانتخابات كان هناك ضرورة لإعادة تحديد البوصلة والمسار، وإعادة التماسك التنظيمي للحركة، وضخ دماء جديدة شابة في مؤسساتها القيادية، ومعالجة الترهل والفساد الذي عشش في أوساطها، وإعادة ثقة الشارع الفلسطيني بمشروعها الوطني ومسارها السياسي الذي تعرض لكثير من الاهتزازات.

وكان هناك أيضاً رغبة عربية ودولية في أن تتمكن فتح من إعادة ترتيب أوضاعها واسترجاع تماسكها وقدرتها على المبادرة، باعتبارها الحركة الأكثر قبولاً والأكثر قرباً من السياسات العامة العربية والدولية تجاه القضية الفلسطينية، وباعتبارها الحركة التي حملت عبء مسار التسوية واتفاقات أوسلو والسلطة الفلسطينية، فضلاً عن أن تفككها وتراجعها سيؤدي إلى صعود حركة حماس ووراثتها لقيادة الشعب الفلسطيني، بما يعني ذلك من تعطيل لمسار التسوية، وتولي الإسلاميين زمام القيادة، وهو أمر مرفوض في الوضع الراهن من قبل النظام الرسمي العربي والدولي.

عناصر التعطيل والتأجيل
وطوال الفترة الماضية كان يتكرر تحديد تواريخ معينة لانعقاد المؤتمر، ويتم تأجيله من شهر إلى آخر. وقد حالت عوامل عديدة دون انعقاده، أبرزها:

1- تعطل انعقاد المؤتمر نحو 20 عاماً تسبب في تراكم قضايا واستحقاقات كبيرة وشائكة ومعقدة سياسية وتنظيمية، وكان لا بد من وجود حد أدنى من توافق داخلي مسبق ومعقول حولها وإلا قد تكون عناصر تفجير للمؤتمر، مما قد يهدد بالوقوع في مزيدٍ من التدهور والتراجع.

2- حالة الترهل والتفكك التنظيمي أدت إلى وجود حالات اختراق مختلفة في جسدها، وجعلت من فتح “تنظيم من لا تنظيم له”، وأوجدت تنظيماً رخواً من نحو ربع مليون عضو، وتنقصه معايير الانضباط والولاء.

ودخل الكثير من العناصر لتحقيق منافع شخصية مرتبطة بقيادة فتح لمنظمة التحرير وللسلطة الفلسطينية، وأضعفت حالة الترهل من قدرتها على مراقبة عناصرها القيادية ومحاسبتهم ومعاقبتهم عندما تقتضي الضرورة، وتسببت في وجود حالات فساد في المراتب العليا ممن تصعب إزاحتهم، كما أسهمت في تشكل تيارات داخلية مختلفة تتمحور حول رموز وأشخاص، ويستقوي بعضها بقوى خارجية.

وفي مثل هذه الأحوال فإن مجرد عقد مؤتمر كهذا، قد يؤدي إلى “تصفية حسابات” داخلية، وإلى سقوط أشخاص وصعود آخرين، وهي عملية كانت تخشى قيادة فتح عواقبها، وكانت تفضل أن تتم في ضوء ترتيبات مسبقة، وأن تؤدي إلى نتائج “محسوبة” أو “تحت السيطرة”.

وقد توالت تصريحات قياديين في فتح حول ما أصاب الحركة من ترهل وفساد، فمثلاً أقرَّ صائب عريقات بأن فتح “تعيش حالة غير مسبوقة من المشاكل والخلافات الداخلية”، أما حاتم عبد القادر فاعتبر أنها “وصلت إلى وضع صعب جداً”.

وجاءت فضيحة تهريب الهواتف النقالة التي اتهم فيها روحي فتوح رئيس المجلس التشريعي السابق ومستشار الرئيس عباس لتكشف استمرار مسلسل الحديث عن الفساد الذي طال قيادات كبيرة في فتح.

وعلق رئيس المحكمة الحركية العليا لفتح رفيق النتشة بأن “الفساد والفاسدين ما زالوا يسيطرون على حركة فتح”، مؤملاً أن يقوم المؤتمر السادس بإبعادهم.

أما مروان البرغوثي فحمَّل قيادة فتح مسؤولية فساد العديد من قياداتها، ودعا إلى إجراء تغيير حقيقي في القيادة وإلى انتخاب وجوه جديدة ورموز ليس لها علاقة “بالفساد والعجز والفشل”.

3- إشكالية تدافع الأجيال داخل فتح ورغبة العناصر الشابة في الوصول إلى المواقع القيادية، وتخوف جيل الرواد والحرس القديم في الحركة إما من فقدانها لبوصلتها وروحها التي حملوها، أو من فقدانهم لمكانتهم ومناصبهم والمزايا التي يتمتعون بها، أو من كون بعضهم عرضة للمحاسبة على ملفات مرتبطة بالفساد والمسلكيات المالية والتنظيمية.

4- المعادلة الصعبة المرتبطة بالموافقة على التقرير السياسي واتخاذ قرارات سياسية لها علاقة بالرؤية النضالية لفتح وبمسار التسوية، حيث كان الكثير من قواعد الحركة وعدد من رموزها يدفعون باتجاه التأكيد على تبني المقاومة ونقد مسار التسوية، في حين يجد “التيار المعتدل” في الحركة بقيادة أبو مازن نفسه متناقضاً مع ذاته، و”محرجاً” أمام الالتزامات التي قدمها للإسرائيليين والأميركان والمجتمع الدولي.

ولذلك سعى هذا التيار إلى تأخير عقد المؤتمر لتجاوز مثل هذه الأزمة المحتملة، وللعمل على ترتيب أغلبية مناسبة في المؤتمر تدعم توجهاته. وقد حاول البعض عبر “المال السياسي” ضمَّ عناصر وكوادر إلى جانبه، لكن الكثير من عناصر فتح ظلت مستعصية على الإغراءات المختلفة.

وقد اضطر ناصر القدوة للاستقالة من عضوية اللجنة التحضيرية ومن رئاسة لجنة صياغة البرنامج السياسي الجديد للحركة بسبب خلافات كبيرة مع بعض أعضاء اللجنة المركزية في أوائل أبريل/نيسان 2008. ويظهر أن النقاشات في ذلك الوقت قد أدت إلى استبعاد الأفكار التي تتحدث عن ضرورة تحويل فتح من حركة تحرر وطني إلى حركة مدنية أو حزب سياسي، وهي أفكار سبق أن تقدم بها مكتوبة مرتين ناصر القدوة.

وعلى الرغم من أن نبيل شعث صرح بعدما أنهت اللجنة التحضيرية للمؤتمر أعمالها في عمَّان يوم 12/6/2008 بأنه تمت المصادقة على مسودة البرنامج السياسي الجديد لفتح، وعلى برنامج البناء الوطني الذي يتضمن إستراتيجيات الحركة فيما يتعلق بالسياسات والخطط الاقتصادية والاجتماعية والشبابية والتنموية، فإن الاجتماع الذي عقدته اللجنة التحضيرية الموسعة برئاسة أبو ماهر غنيم يومي 3 و4/8/2008 في عمَّان، تبنى توصية بإعادة قراءة البرنامج السياسي ووثيقته، كما رفض الاجتماع الصياغات والنصوص العمومية التي اقترحها نبيل شعث في البرنامج السياسي والتي أسقطت في صياغتها الأولى خيار المقاومة وتجنبت النص على مبدأ حرب التحرير الشعبية طويلة الأمد، وخلطت بين المقاومة المدنية والعسكرية.

كذلك، دعا الاجتماع إلى إعادة النظر في المسيرة السلمية والمفاوضات، والعودة إلى تجذير العمق العربي والإسلامي للقضية، والنص صراحة ومباشرة على المقاومة. كما “شنَّ مناقشوه من قادة فتح هجوماً شرساً على ما أسموه خط دايتون في صفوف الحركة”.

وهكذا، بدا أن الرياح لا تجري كما يشتهي الرئيس عباس الذي ما كان ليعقد مؤتمراً لفتح يخرج بنتائج تناقض توجهاته والتيار “المعتدل” و”المتنفذ” في الحركة، بل ويقدم مقاربة أقرب إلى رؤية حماس منها إلى رؤية قيادة فتح الحالية.

وقد جرت محاولات توفيق في الصياغات إلى أن وضعت الورقة السياسية المكونة من 90 صفحة على طاولة نقاش اللجنة التحضيرية التي انعقدت منتصف نوفمبر/تشرين الثاني 2008، ضمن ست أوراق مستكملة بشكل شبه نهائي. وكان فيها تأكيد على رفض فتح للمشروع الصهيوني في فلسطين وتأكيد على المبادئ التي حملتها الحركة منذ ولادتها. لكن الورقة لا تضع نفسها في زاوية القرار السياسي وتبقي الباب موارباً لتحديد اتجاهات الحركة المستقبلية.

5- غياب القيادة التاريخية المجمع عليها لدى فتح وخصوصاً بعد وفاة ياسر عرفات، وهي قيادة كانت قادرة على الحسم وتحديد المسارات، ومن ذلك عقد المؤتمر عندما تقرر ذلك فعلاً، على الرغم من أن تلك القيادة مسؤولة إلى حد كبير عن حالة الترهل وضعف البناء والعمل المؤسسي داخل فتح، والجنوح نحو الفردية، وتهميش دور المؤتمر العام.

6- الإشكاليات المرتبطة بتحديد مكان المؤتمر وما يحمله ذلك من مضامين سياسية أو تنظيمية. فهل سيعقد في أريحا حيث السلطة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي وقدرة تيار الداخل على تحشيد عدد أكبر من الكوادر والأنصار، أم سيعقد في الأردن أم في مصر مع ما يحمله ذلك من فرص أفضل لأعضاء فتح في الخارج، وإمكانات تأثير الدول المضيفة على توجهات ونتائج المؤتمر.

وقد رشحت أنباء عن خلافات حادة داخل اللجنة التحضيرية حول مكان الانعقاد، وذكر أن خمسة من أعضاء اللجنة المركزية وقادة أقاليم الأردن وسوريا ولبنان يطالبون بعقده خارج الأراضي الفلسطينية، في حين يصر باقي أعضاء اللجنة المركزية -بمن فيهم محمود عباس- على عقده في الداخل.

7- الإشكالية المرتبطة بتحديد أعداد المشاركين في المؤتمر ومعايير اختيارهم، وهل سيكونون 1200 أو1500 كما يرغب الكثيرون من الحرس القديم في اللجنة المركزية والمجلس الثوري، أم سيكونون بحدود 3500 كما يرغب الكثيرون من تيار الشباب وعلى رأسهم مروان البرغوثي، وما هو نصيب العسكريين؟ ومن هم أعضاء فتح الذين يحق لهم الاختيار أو الترشيح؟

لقد ظلت هذه الإشكالية قائمة بدرجات مختلفة، لأن تحديد نوعية المشاركين وأعدادهم سيحكم مسبقاً وإلى حد كبير على الشكل الذي ستنتخب فيه رئاسة فتح ولجنتها المركزية ومجلسها الثوري.

وفي 23/10/2008 أقرّت اللجنة المركزية في فتح عدد الأعضاء الذين يحق لهم المشاركة في المؤتمر بـ1200 عضو من الداخل والخارج، لكن العدد ظل مثار اعتراض ونزاع.

8- يبدو أن هناك من القيادات من كان يرغب في عقد المؤتمر بعد إنهاء الانقسام الفلسطيني و”استعادة” قطاع غزة من سيطرة حماس. ولم تكن الأجواء “الاحتفالية” باستعادة فتح زمام المبادرة والسيطرة في النزاع الفلسطيني الداخلي هي السبب الوحيد، إذ إن عدداً من هؤلاء كان يريد أن يقدم إنجازاً بين يدي المؤتمر يحفظ به مكانته وموقعه ويجنبه الحساب العسير المتوقع عن سوء الأداء والتقصير في مرحلة المواجهة العسكرية بين فتح وحماس والتي أدت إلى سيطرة الأخيرة على قطاع غزة.

ويظهر أن العمل الطويل والمضني للجنة التحضيرية لم ينجح في جَسْرِ حالات التنازع والتدافع والتعطيل. وما زالت هناك مخاوف من أن يؤدي انعقاد المؤتمر إلى انشقاقات، أو أن يكون عقده “بمثابة تفجير للحركة” على حد تعبير أحد قادتها الذي أضاف أن المعنيين بالحركة يعلمون ذلك لكنهم يتحرجون من إعلانه.

ويبدو أن مؤتمر فتح سيظل عرضة للإرجاء ما لم يتم الوصول إلى معادلة دقيقة تضمن -على الأقل- اعتبارات ومصالح اللاعبين الكبار والتيارات الفاعلة في الحركة.

المصدر: الجزيرة نت، 1/5/2009