مدة القراءة: 11 دقائق

(حول التداعيات القانونية والسياسية لانتهاء ولاية الرئيس محمود عباس).   

 بقلم: د. شفيق المصري.
 

   لعل الخبر الذي نشرته إحدى الصحف اللبنانية مؤخراً[1] يشكل باب الانفراج المرغوب للأزمة الناشئة في الببيت الفلسطيني. ويلخص هذا الخبر خطة مصرية مؤلفة في أربعة بنود تبدأ بتشكيل حكومة انتقالية من شخصيات مستقلة، وتمر بإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية متزامنة، وبإنهاء ظاهرة الاعتقال السياسي، ثم تستكمل بإعادة بناء منظمة التحرير بما يكفل توسيع إطارها وتمثيلها. والواقع أن ما ورد في هذا الخبر يشكل المخرج اللائق لكل الأطراف المتورطة بالأزمة الفلسطينية – الفلسطينية التي نشأت وتراكمت في تعقيداتها السياسية (وليس القانونية) إلى مأزق مزدوج بين من يهدّد بنهاية حكمية لولاية رئيس السلطة وبين من يهدد بإعلان غزة إقليماً متمرداً.

وفي مقاربة هذا الملف من كامل وجوهه يتضح، قبل الغوص ببعض تفاصيله:

   أ- أن الاطار الأساسي لهذه الأزمة يتمثل، مبدئياً، في الحيّز الدستوري الداخلي ولا شأن له بالقانون الدولي إلا من حيث بعض المعايير العامة التي سنتطرق إليها في هذا البحث.

   ب- إن النزاع المتواصل بين الأطراف المتجاذبة سبق أن عولج وتم الاتفاق حوله في وثائق ومؤتمرات متتالية. وبالتالي فإن المشكلة تكمن في احترام هذه المواثيق ودقة تنفيذها أكثر مما ورد في أصول البنود التي حظيت مبدئياً بموافقة الطرفين.

   جـ_ إن الادعاء الذي أطلقته بعض الفصائل الفلسطينية بأنها مستبعدة أصلاً عن هذه المواثيق والاتفاقات يقع، في مجمله، في موقع صحيح.

   د- وإن مقتضيات الشعب الفلسطيني لا تزال تخضع للمعايير الذاتية لكل من الفريقين ووفقاً لمصالحهما السياسية المتجاذبة.

   هـ وعلى هذا الأساس لا بد من تصويب بعض النقاط والبنود في هذا الملف استناداً إلى معايير القانون الدولي من جهة وإلى القانون الأساسي الفلسطيني من جهة أخرى.

2- تنص المادة 25 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (16/12/1966) على أن “يكون لكل مواطن، دون أي وجه من وجوه التمييز المذكورة في المادة 2، الحقوق التالية التي يجب أن تتاح له فرصة التمتع بها دون قيود غير معقولة:

   أ-  يشارك في إدارة الشؤون العامة، إما مباشرة وإما بواسطة ممثلين يختارون في حرية.

   ب-  ينتخب ويُنتخب، في انتخابات نزيهة تجري دورياً بالاقتراع العام وعلى قدم المساواة بين الناخبين وبالتصويت السري، تضمن التعبير الحر عن إرادة الناخبين[2].

   ج- أن تتاح له، على قدم المساواة عموماً مع سواه، فرصة تقلد الوظائف العامة.

والمعروف أن بنود هذا العهد الدولي باتت، بعد إبرامه من قبل معظم دول العالم، من الأحكام المستقرة في القانون الدولي.

وبموجب، هذا العهد، إذن، يتمحور التركيز على إرادة الشعب ويقتضي الاعتراف بهذه الإرادة التي يعبّر عنها ممثّلوه المنتخبون وفقاً للصدقية التي يطالب بها القانون الدولي.

  وبموجب هذا العهد أيضاً لا يصح إطلاقاً القيام بأية إجراءات عقابية بحق هذا الشعب الذي عبَّر عن إرادته وفق هذه الصدقية وبالتالي يجب أن يصار إلى التمييز بين ممثلي هذا الشعب كأفراد وشاغلي وظائف عامة، وبين المصالح الحيوية والأساسية للشعب ذاته.

وإذا كان ثمة نصوص داخلية تقضي بمحاسبة وربما بمعاقبة هؤلاء المسؤولين في الإطار الدستوري أو القانوني فإن على السلطات الأخرى المركزية أن تقوم بهذه الإجراءات من دون أن تفرض أية عقوبة جماعية بحق الشعب بكامله[3].

أيضاً أن تتجنب ما قد يسبب حرماناً أو اضطهاداً أو حصاراً أو عزلاً لمواطنيها من دون أي سبب أمني يتعلق بضرورات النظام العام.

  وقد حرص القانون الدولي، في الإعلان العالمي لحقوق الانسان، أن يؤكد في المادة الثانية منه على أنه “لايجوز التمييز على أساس الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي للبلد أو الإقليم الذي ينتمي إليه الشخص، سواء أكان مستقلاً أو موضوعاً تحت الوصاية أو غير متمتع بالحكم الذاتي أم خاضعاً لأي قيد آخر على سيادته”.

   3- لحظ ميثاق الأمم المتحدة في المادة 24 التي تعتبر أن قرارات مجلس الأمن تتخذ باسم كافة الدول الأعضاء في المنظمة، والمادة 25 التي تنص على التزام الدول قرارات مجلس الأمن، والمادة 103 التي تعتبر أنه اذا حصل أي تعارض بين موجبات الدولة حيال قرارات الأمم المتحدة وبين موجباتها حيال اتفاقيات دولية أخرى فإن ما يُعتدّ به هو القرارات الدولية.

  وعلى هذا الأساس فإن التزام جميع الدول القرارات التي يصدرها مجلس الأمن إنما هو التزام مسبق وكامل، وليس عائداً إلى موقف الدول منها ولا إلى خيارها الطوعي في التزامها أو إغفالها.

  وعلى الرغم من أن السلطة الفلسطينية لم تنضمّ بعد إلى الأمم المتحدة للأسباب الدستورية المعروفة، فإنها أكدت في المادة العاشرة من القانون الأساسي أنها ستعمل “دون إبطاء على الانضمام إلى الإعلانات والمواثيق الإقليمية والدولية التي تحمي حقوق الإنسان”[4].هذا مع العلم أن ميثاق الأمم المتحدة يُعتبر، ولا سيما في هذه المواد، من جملة القواعد الآمرة الملزمة للدول الأعضاء وغير الأعضاء في المنظمة الدولية.

  واستناداً لذلك فإن عبارتي “الالتزام” في ما يخص المصالح العليا للشعب وصون حقوقه والعمل على تحقيقها على أساس قرارات المجالس الوطنية، و”الاحترام” فيما يخص القرارات الشرعية الدولية والاتفاقات التي وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية[5]، غير مناسبتين وغير صحيحتين. فالالتزام بالمواثيق والقرارات الدولية أمر موجب ولا يترك أي خيار في هذا المجال. وإذا كان ثمة إصرار في اعتماد واستخدام هاتين الكلمتين فإن هذا الاصرار يضع السلطات والقوى الرسمية موضع التساؤل في سياق القانون الدولي ولا سيما بالنسبة لقرارات المجلس الأمن الدولي.

  وإذا كان ثمة دول أو إحدى الدول (إسرائيل مثلاً) تنتهك هذه القرارات أو لا تكترث لها، فإن ذلك يشكل مخالفة صريحة تسعى الإدارة الأمريكية إلى تجنيب إسرائيل عواقبها. وبالتالي تصبح المخالفة مزدوجة والانتهاك فاضحاً ولا يصح، من الناحية القانونية، التمثّل به ولا مجاراته.

  4- تشكل الولاية الزمنية المحددة للسلطات الدستورية ضمانة أساسية من ضمانات الديموقراطية في ضوابطها الدستورية.

ذلك لأن هذه الديموقراطية تنتظم في إطارين: الولاية وحدودها الزمنية والصلاحيات وحدودها الدستورية. لذلك فإن هذين الإطارين ملزمان لكل نظام سياسي وبالتالي لا يجوز تجاوز أي منهما تحت طائلة الأحكام الدستورية النافذة. كما يقتضي أيضاً توفير الانسجام الكامل بين الأطر الملحوظة في القانون الدولي وتلك الواردة في النصوص الدستورية. فعندما يؤكّد القانون الدولي أن الانتخابات تجري “دورياً” كما ورد في المادة 25 الآنفة الذكر يعني أن هذه الولاية الزمنية التي حددها دستور الدولة يجب أن تحترم.
إلا أنَّ القانون الدولي اضطر أن يكون مرناً في بعض الحالات الاستثانئية لأنه ترك للدول حرية تحديد المهلة الزمنية لهذه الولاية في كل دولة وكذلك اعترف بوجود بعض الحالات الاستثنائية على أن تبقى في نطاقها الضيق حصراً. فإذا كان ثمة حالات طوارىء استثنائية تشهدها الأمة… يجوز للدول أن تتخذ، في أضيق الحدود… تدابير خاصة مخالفة شرط عدم منافاتها للالتزامات الأخرى بمقتضى القانون الدولي[6].

  كذلك اعترف القانون الدولي بالحالات الاستثنائية التي تبقى من حق السلطة ذات الصلاحية في حل هذه السلطات الأخرى شرط التزامها الأحكام الواردة في الدستور[7].

  وشرط أن لا تحرم الشعب بممارسة حقه بواسطة ممثليه الشرعيين، وذلك باعتبار أن الشعب هو صاحب السيادة التي يمارسها بواسطتها.

  وقد ورد في القانون الأساسي الفلسطيني عدد من الشروط المفروضة في هذا الصدد، ومنها ما ورد في المادة 36.

   – إنَّ رئيس السلطة الفلسطينية يمكن أن يرشّح نفسه لفترة رئاسية ثانية على أن لا يشغل منصب الرئاسة أكثر من دورتين متتاليتين.

  وهذا يعني أن التمديد يتم من خلال الانتخاب مرة ثانية ليس بمجرد إجراء استثنائي من قبله.

وهذا الوضع مطابق للدستور الأمريكي مثلاً وحريص على ديموقراطية النظام ذاته. أما مسألة الظروف الاستثنائية وإعلان حالة الطوارىء فيقتضي شرحها أيضاً.

 5- يشكّل مفهوم الطوارىء استثناءاً واضحاً لنظرية الحريات العامة وممارستها. تعتمد السلطة ذات الصلاحية إعلان حالة طوارىء (عند تعرض الدولة أو البلاد لخطر داهم ناتج عن حرب خارجية أو ثورة مسلحة أو أعمال أو اضطرابات تهدد النظام والأمن أو عند وقوع أحداث تأخذ طابع الكارثة)
[8].

  وعند إعلان حالة الطوارىء تتولى السلطة العسكرية صلاحية المحافظة على الأمن وتحسم كل عناصر المسلكيات العامة بواسطة إجراءاتها الفورية أو من خلال أحكام المحكمة العسكرية.

  ولكن الدول ذاتها حرصت في دساتيرها على توفير بعض الضمانات للمواطنين للحؤول دون المغالاة ولا الانحراف في استخدام حالة الطوارىء. 
 لذلك اشترطت مثلاً حق المجلس التشريعي في هذه الدول أن يناقش وقد يلغي هذه الحالة بعد أيام محددة من إعلانها[9].

  أما في القانون الأساسي الفلسطيني فقد حرصت المادة 113 على التأكيد أنه “لا يجوز حل المجلس التشريعي الفلسطيني أو تعطيله خلال فترة حالة الطوارىء…”. وهذا يعني أن التعطيل الكامل أو الجزئي لعمل المجلس التشريعي محظور بموجب هذه المادة. وإذا تمّ أي تعديل في الدستور مثلاً أو تعليق أحكامه ونتج عن هذا التعديل أو التعليق أي تعطيل لعمل المجلس فإنَّ ذلك يشكّل مخالفة صريحة لأحكام هذا الدستور ذاته.

  ولكن الوضع القائم على الساحة الفلسطينية الآن يحول دون انعقاد المجلس التشريعي لأن عدداً كبيراً من أعضائه هم قيد الاعتقال التعسفي لدى السلطات الإسرائيلية. ومع ذلك فإنَّ المجلس التشريعي، ضمن حقّه الرَّقابي، يستطيع أن يقوم بمهمته هذه وإن بعد حين.

  يبقى المهم في موضوع إعلان حالة الطوارىء أنّه استثنائي وخاص وخطير وقصير ومؤقّت. أما استثناءه فلأنّ القاعدة أن يسود حكم القانون في دولة مدنية. وإنَّ هذا القانون يملك من الضمانات والضوابط ما يُحافظ على الحريات العامة والنظام العام في آن معاً. وأما خطورته تتمثل بتداعيات هذا الإعلان إن لم يكن ما يبرره فعلاً ولمدة قصيرة لا يجوز تمديدها إلا في أوضاع خاصة[10].

6- استقالة الحكومة: تنص الفقرة -6- من المادة 83 من القانون الأساسي الفلسطيني أن الحكومة تعتبر مستقيلة في عدد من الحالات منها: إقالة رئيس الوزراء من قبل رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية. وهذا يعني:

أ- أن لرئيس السلطة الوطنية الصلاحية الدستورية في إقالة رئيس الوزراء في ضوء أساب يعود تقديرها إليه. ورئيس الوزراء معيّن أصلاً من قبل رئيس السلطة الوطنية، وذلك بموجب المادة 65 من القانون الأساسي.

ب- إن هذه الصلاحية العائدة لرئيس السلطة الفلسطينية غير محكومة بأي شروط مسبقة باستثناء حق المجلس التشريعي في تسميته. إلا أن هذه التسمية لا تتسم بأي طابع إلزامي. ولكن المجلس التشريعي يستطيع أن يفرض رأيه عند تعيين رئيس الوزراء وذلك من خلال التصويت على الثقة برئيس الوزراء أو الوزراء؛ أو من خلال سحب هذه الثقة منهم. كما أن المادة 45 من القانون الأساسي الفلسطيني تؤكد هذه الصلاحية غير المشروطة لرئيس السلطة الفلسطينية. هي تنصّ على أن” يختار رئيس السلطة الفلسطينية رئيس الوزراء ويكلفه بتشكيل حكومته. وله أن يقيله أو يقبل استقالته. وله أن يطلب منه دعوة مجلس الوزراء للانعقاد”.

ج- إن عملية التكليف أو التعيين أو الاستقالة أو الإقالة لا ترتبط حكماً بأكثرية المجلس التشريعي في الإطار القانوني. ذلك لأن هذا المنصب معيّن وليس منتخباً[11]. ويبقى للمجلس التشريعي في مواجهة هذه الأوضاع، أن يستعيد سيطرته على الموقف السياسي وحتى الدستوري من خلال أكثريته الفاعلة.

وبالتالي، فإن الاعتراض على هذه الصلاحية الدستورية لرئيس السلطة يجب أن يندرج ضمن حدود اللعبة الديموقراطية ذاتها من دون اللجوء إلى الشارع ولا فرض القوة المسلحة والأمر الواقع[12]. وبذلك فإن أية ذريعة تقوم على أن هذه الحكومة الراهنة غير شرعية لأنها لم تحاول أخذ ثقة المجلس التشريعي، وأن الحكومة المقالة شرعية لأنها قائمة حكماً بتصريف الأعمال.. هذه الذريعة لا تستقيم في المنطق الدستوري العام.

والواقع أن الحل الدستوري المطلوب يتمثل في العودة إلى الدستور الفلسطيني من دون أية قراءة انتقائية ولا مجتزأة، أو العودة إلى المحكمة الفلسطينية العليا (إذا كانت مشكّلة فعلاً) وهي المحكمة الدستورية العليا في البلاد لكي تبت هذه المسألة وفق أحكام المادة 103 من القانون الأساسي الفلسطيني.

أما الحل السياسي، فقد بات معروفاً، وإن لم يحظ بإجماع الفصائل الفلسطينية، بعد، وهو الذي يتمثل في تشكيل حكومة انتقالية ومحايدة بانتظار تحقيق التفاهم ومن ثم التصالح المطلوب للخروج من المأزق وتداعياته الخطيرة[13].

7- حكومة تسيير الأعمال العادية في الأصول الدستورية هي إحدى حكومتين:

أ- حكومة سبق أن حصلت على ثقة السلطة التشريعية ثم استقالت وكلّفت، ومن ثم، تسيير الأعمال العادية بانتظار تشكيل حكومة جديدة.

ب- أو حكومة جديدة لم تحصل أصلاً على ثقة السلطة التشريعية، بمعنى أنها لم تتقدم لأخذ هذه الثقة وتقدم استقالتها فيقبلها الرئيس ويكلفها بتسيير الأعمال العادية بانتظار تشكيل حكومة جديدة.

فبالنسبة للحالة الأولى، يمكن للحكومة أن تستمر في أعمالها العادية إذا طلب منها رئيس الجمهورية ذلك في سياق قبوله استقالتها أو مرسوم إقالتها أو اعتبارها مستقيلة. وهذا التكليف بالأعمال العادية لا يمكن أن يكون تلقائياً وملزماً لسلطة التعيين. ولكنه يصدر صراحة (أو يجب أن يصدر) من قبل سلطة التعيين. وإذا لم يصدر هذا التكليف، فإن باستطاعة الرئيس أن يعين حكومة أخرى فور قبول استقالة الأولى أو إقالتها أو اعتبارها مستقيلة؛ وذلك ضمن الحدود التي رسمها له الدستور. علماً بأن التكليف في هذه الحالة يجب أن يقتصر على تسيير الأعمال العادية فقط[14].

والأعمال العادية هي، في رأي أحد الفقهاء الدستوريين[15] “الأعمال التي لا تتحمل التأجيل أو الإرجاء لحين تأليف الوزارة الجديدة”؛ مع الاعتراف بأن هذا المفهوم قد يقبل التضييق أو التوسيع وذلك في ضوء الاعتبارات السياسية السائدة. إلا أن ثمة اجتهاداً أعلنه مجلس شورى الدولة في لبنان في 17/12/1969 وميّز بين الأعمال “التصريفية” والأعمال “العادية” .وذكر المجلس آنذاك:

“إن الأعمال العادية تنحصر مبدئياً في الأعمال الإدارية، وهي الأعمال اليومية التي يعود إلى الهيئات الإدارية إتمامها، ويتعلق إجراؤها في الغالب على موافقة هذه الهيئات كتعيين ونقل الموظفين وتصريف الأعمال الفردية التي لا يمارس عليها الوزراء سوى إشراف محدود”[16]. ويمكن في ضوء هذه الاجتهاد، أن يصار إلى الاستئناس بما ورد فيه سواء لجهة تقويم الأعمال “التصرفية” التي تمارسها حكومة حائزة على ثقة المجلس أو لجهة طبيعة الأعمال “العادية” التي يكلف الرئيس بها، أية حكومة مستقيلة.

أما بالنسبة للحالة الثانية، أي الحكومة المستقيلة التي لم تكن قد حصلت على ثقة المجلس التشريعي أو أنها لم تتقدم منه أصلاً. فإن تكليفها بالأعمال العادية من قبل رئيس الجمهورية (هنا السلطة) خاضع للمعايير ذاتها من دون أي تجاوز. ولعل السبب في ذلك هو:

أ- أن التكليف ضروري لقيام الحكومة العادية بأعمالها وفق قاعدة استمرارية المرفق العام وعدم الإضرار بالمصلحة العامة. وهذا التكليف خاضع للقواعد والشروط ذاتها التي وردت في الحالة الأولى.

ب- إن هذه الأعمال محصورة بالأعمال العادية وليس الأعمال التصرفية التي لا تستطيع الحكومة المستقيلة القيام بها من دون رقابة المجلس التشريعي.

ج- المعروف أن جميع هذه الأعمال محصورة أيضاً بالطابع المؤقت بانتظار حكومة جديدة. ولا بد، بالتالي، من تشكيل حكومة تلتزم الفقرة -4- من المادة 79 من القانون الأساسي، من دون الإصرار على تشريع الوضع الانقلابي الراهن وإلغاء كل الإجراءات التي حصلت بصدده لغاية الساعة.

8- أما السؤال حول أية مهلة محددة لتسيير الأعمال العادية للحكومة المستقيلة، فإنها، في الواقع، غير محددة في نص دستوري ولا في عرف سياسي بشكل حاسم. وقد سبق أن شهدت بعض الأنظمة السياسية، كلبنان مثلاً، بين الدول العربية، أو بلجيكا بين الدول الأوروبية، فترات طويلة من حالات الحكومة المستقيلة والمكلفة بتسيير الأعمال العادية ومن دون التمكن من وضع حدود زمنية لذلك التكليفة.

كذلك فإن دولاً أخرى لجأت إلى حكم قانون الطوارئ من دون الالتزام بأية فترة زمنية محددة لتطبيقه.

لكن هذا الوضع الاستثنائي والمؤقت في الحالتين المذكورتين يجافي المنطق القانوني أصلاً، وذلك:
أن الحكم (هنا كسلطة إجرائية) لا يجوز أن يختصر بتسيير الأعمال العادية فقط دون الاضطرار إلى أعمال تصريفية أساسية فضلاً عن ضرورة احترام رقابة السلطة التشريعية على أعمال الحكومة. أما إذا تجاوز الأمر نطاق هذه الأعمال الإدارية إلى ما هو بحاجة لهذه الرقابة، فإن في هذه التجاوز مخالفة دستورية غير مقبولة. إن أهمية حكم القانون تتمثل في صدقية صدوره عن الشعب صاحب السيادة وهو الذي يمارس سلطاته من خلال ممثليه في السلطة التشريعية. وإذا كان هذا القانون البرلماني معطلاً من دون أي مبرر مقنع، فذلك يعني أن هذه الإدارة الشعبية معطلة بدورها. ولا يمكن أن يستقيم هذه الوضع إلا بالعودة إلى المعايير الدستورية المعتمدة لدى كل دولة عصرية والاحتكام إلى ضوابطها[17].

وعلى كل حال فإن أية حكومة تبقى مسؤولة أمام رقابة السلطة التشريعية حتى بعد استقالتها حيث يصار إلى التركيز على المسؤولية الفردية لرئيس الوزراء والوزارء على الأقل. فضلاً عن مسؤولية السلطة (أي الرئيس) التي أصدرت التكليف ذاته. وفي ضوء ما تقدم فإن الإصرار على الموقف السياسي المتشنج لهذا الفريق أو ذاك لا يعفيهما معاً من عواقب مخالفة الدستور أو تجاوزه، ولا يستطيع أي منهما أن يدّعي دستورية موقفه ما لم يكن هناك حكم دستوري حاسم إلى جانبه.

ولدى مراجعة بعض المواقف السياسية يتبين أن بعض النقاط بحاجة أيضاً إلى تصويب قانوني، ومنها:

ما صدر عن الحكومة المقالة منذ 2/9/2006[18] عن “إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة على جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، والمتواصلة جغرافياً وعاصمتها القدس”. والملاحظ هنا، أنها المرة الرسمية الأولى التي تتحدث فيها حكومة الوحدة الوطنية برئاسة حماس حول إقليم الدولة العتيدة “أي جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967”. وبذلك فإن البيان الرسمي لهذه الحكومة أغفل القرار 181 مع العلم أن إعلان الدولة الفلسطينية في العام 1988، أتى بالاستناد إلى هذا القرار. ولقد كان من الأفضل أن لا يصار إلى إغفال هذه القرار أو تغييبه قبل الجلوس إلى الطاولة الحقيقية والفاعلة للمفاوضات.

كانت تسيبي ليفني زعيمة حزب كاديما الحالية قد اقترحت منذ 19/11/2006[19] إطاراً للحل السياسي مع الفلسطينيين. وقد ورد في بعض نقاط هذه الإطار أن المرحلة الثانية منه أي” بعد فترة من وقف إطلاق النار تعلن إسرائيل عن إقرارها بحق الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة على حدود 1967″ وليس من المعروف اليوم، وليفني على أبواب رئاسة الوزارة الجديدة، ما إذا كانت ملتزمة بذلك الاقتراح أم لا.

فإذا كانت لا تزال ملتزمة به يبقى السؤال قائماً حول مدى جدية هذا الإقرار بعد أن وافقت حماس أصلا على إقليم الدولة العتيدة؟ وحول ما إذا كان بالإمكان استئناف التفاوض الثنائي استناداً لهذه النقطة. والواقع أن أولمرت يدعي أن رئيس السلطة الفلسطينية رفض عرضه إقامة دولة فلسطينية على حدود 4/6/1967 مع تأجيل ملفي القدس واللاجئين إلى فترة لاحقة[20].

وكان من المنتظر أن يرفض رئيس السلطة مثل هذه العرض. وكان من المنتظر أيضاً أن لا يستطيع أولمرت بسبب وضعه الخاص، أن يقدم أكثر من ذلك. واليوم بعد إعادة بناء البيت الحكومي الإسرائيلي، هل يستطيع الرئيس الفلسطيني وحده (أي من دون حماس) أن يتعهد استكمال المفاوضات ويتحمل أعباءها؟ وهل ستمكنه السنة الإضافية (أي ابتداء من 9/1/2008) من ولايته أن يحقق أي أمر ملموس؟ وهل قوة الأمر الواقع في غزة تستطيع ذلك؟ فلماذا إذن لا يستجيب كلاهما إلى الاقتراح الذي ورد في أول هذا البحث استناداً إلى المحاور التي قدمها الجانب المصري؟

 


[1] جريدة النهار في 24/9/2008 نقلاً عن مراسلها في القاهرة جمال فهمي.

[2] انظر هذا العهد في: مجموعة صكوك دولية، منشورات الأمم المتحدة 1988، ص 18-36.

[3] وتأكيداً لذلك وردت المادة 15 من القانون الأساسي الفلسطيني التي تنص على “أن العقوبة شخصية، وتمنع العقوبات الجماعية، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني”.

[4] المادة العاشرة من القانون الأساسي الفلسطيني.

[5] انظر التقرير الاستراتيجي الفلسطيني سنة 2007، ص 27 و32.

[6] انظر مجموعة صكوك دولية، المادة الرابعة من العهد ذاته ص 20.

[7] لا بد هنا من التمييز بين الدساتير ذاتها. فمنها ما يجيز حل السلطة التشريعية في حالات محددة من قبل السلطة الاجرائية (لبنان مثلاً) ومنها ما لا يجيز ذلك. ويبدو، من قراءة المادة 41 من القانون الأساسي الفلسطيني أن هذا الحل غير وارد.

[8] ادمون ربّاط، الوسيط في القانون الدستوري، ص 874نقلاً عن المادة الأولى من المرسوم الاشتراعي (اللبناني) رقم 52 في 5/8/1968 الخاص بإعلان حالة الطوارىء.

[9] المرجع ذاته ص 877. والواقع أنّ القانون الأساسي الفلسطيني أورد مثل هذه الضمانة في الفقرة الرابعة من المادة 110 حيث ذكر أنّه: “يحقّ للمجلس التشريعي أن يراجع الاجراءات والتدابير كلها أو بعضها التي اتخذت أثناء حالة الطوارى”.

[10] ولذلك حرصت دساتير الدول كلها على لحظ إمكانية هذه الطوارىء ولكنها حرصت أيضاً على اعتبارها خاضعة لعوامل الوقت والسلطة المقررة والاستثناء القصير.

[11] وهذا ما ينطبق فعلا على وضع رئيس الحكومة المعيّن من قبل رئيس الجمهورية، إلا أن بعض الأنظمة قررت أن يكون هذا المنصب منتخباً مباشرة من قبل الشعب. وهنا يصبح الوضع مختلفاً ولكن صلاحيات المجلس التشريعي تبقى- في سياق الثقة أو سحبها- على حالها. 

[12] وثمة فصائل فلسطينية، كالجبهة الشعبية والجهاد الإسلامي، انتقدت الخطوة التي قامت بها حماس في “الانقلاب على الشرعية الفلسطينية”. واقترحت الجبهة الشعبية في هذا السياق تراجع حماس عن انقلابها، وتشكيل حكومة انتقالية، وإقرار مبدأ التمثيل النسبي في الانتخابات، وتطوير منظمة التحرير الفلسطينية. راجع التقرير الاستراتيجي الفلسطينية لسنة 2007، ص 61.

[13] إنه حل سياسي قد يساعد (ولعله الوحيد) في تفريج الأزمة. ذلك لأن إبقاء الوضع على حاله يدفع باتجاهين غير دستوريين: اتجاه تمديد الولاية الرئاسية استناداً إلى الطوارئ، واتجاه التشبث بالحكومة المقالة استناداً إلى الأكثرية في المجلس التشريعي. والاتجاهان لا يجدان مبرراً دستورياً كافيا.

[14] ولعل الحكمة من وراء ذلك تكمن في أن القاعدة الدستورية العامة تقضي بشمولية الصلاحية الرقابية على أعمال الحكومة لكي تبقى مسؤولة أمام المجلس التشريعي. وبالتالي، فإن الحكومة المستقيلة، والتي لم تتقدم بطلب ثقة هذا المجلس تخرج عن إطار رقابته، ولذلك لا يجوز تكليفها بأي مهام “تصرفية ” أي مقررة في هذه الحالة. 

[15] إدمون رباط، الوسيط في القانون الدستوري اللبناني، ص 791-792

[16] المرجع ذاته، 801-803

[17] زهير شكر، الوسيط في القانون الدستوري اللبناني، ص 879، حيث يقول: “إن مهمة القانون الأساسية هي تأمين أوسع نطاق ممكن لممارسة الحقوق والحريات الأساسية”. ويعتبر أن هذه الحقوق محمية دستورياً ودولياً.

[18] الوثائق الفلسطينية للعام 2006، ص 614

[19] المرجع ذاته 2006، ص 69-70

[20] جريدة الحياة 18/9/2008


إعداد: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات  29 أيلول/ سبتمبر 2008