مدة القراءة: 6 دقائق

حملت نتائج الانتخابات الماليزية التي جرت في 8 مارس/آذار 2008 العديد من المفاجآت، التي كان من أبرزها أن التحالف الحاكم فقد أغلبية الثلثين لأول مرة في تاريخه منذ استقلال ماليزيا قبل حوالي نصف قرن، حيث حصل على 63% من المقاعد (140 مقعدا من أصل 222 مقعدا). وقد كان التحالف الحاكم يتمتع بحوالي 90% من المقاعد في الانتخابات السابقة سنة 2004.

مفاجأة النتائج
فقد تلقى التحالف الحاكم (الجبهة الوطنية) أو ما يعرف بـ”باريسان ناشيونال” ضربة قاسية بخسارة حزب أمنو30 مقعداً من مقاعده في مجلس النواب، وبخسارة حزب جمعية الصينيين الملايويين (MCA) نصف مقاعده (من 31 إلى 15 مقعدا)، وبخسارة حزب المؤتمر الهندي الماليزي (MIC) ستة من مقاعده التسعة، وبخسارة حزب جيراكان الصيني ثمانية من مقاعده العشرة.

وهكذا فَقَدَ التحالف الحاكم لأول مرة قدرته على تغيير الدستور، وإن لم يفقد قدرته على تشكيل الحكومة وتمرير القوانين. وصعدت إلى السطح معارضة قوية ارتفع رصيدها من 20 مقعدا سنة 2004 إلى 82 مقعدا سنة 2008.

وتمكنت المعارضة من السيطرة على خمس ولايات، فإلى جانب الفوز التقليدي للحزب الإسلامي بولاية كلانتان، فقد فازت المعارضة لأول مرة بأغلبية مقاعد مجالس ولايات قدح وسيلانجور وبيراك، كما فازت لأول مرة منذ نحو أربعين عاما بولاية بينانج ذات الغالبية الصينية.

وتلقى الحزب الحاكم هزيمة نكراء في العاصمة الفدرالية كوالالمبور التي لم يفز فيها إلا بمقعد واحد، بينما فازت المعارضة فيها بالمقاعد العشرة الأخرى.

وقد ترافق ذلك مع سقوطٍ مدوٍّ لعدد من رموز التحالف الحاكم، وكان من أبرزهم وزيرة شؤون المرأة والتنمية الاجتماعية شهرزاد عبد الجليل، إذ فازت عليها نور العزة ابنة أنور إبراهيم التي لا تتجاوز 28 عاما، كما خسر سامي فيلو رئيس حزب المؤتمر الهندي الماليزي، وخسر نائبه، وخسر كذلك رئيس وزراء بينانج الذي ينتمي لحزب جيراكان.

وكان من المثير للانتباه أن يتمكن حزب عدالة الشعب الذي تقوده زوجة أنور إبراهيم من رفع مقاعده من مقعد واحد في سنة 2004 إلى 31 مقعدا، وأن يتمكن حزب العمل الديمقراطي (وهو حزب يساري صيني) من مضاعفة رفع من 12 مقعدا إلى 28، أما الحزب الإسلامي (باس) فقد تمكن من رفع مقاعده من سبعة مقاعد إلى 23 مقعدا.

في فهم المعادلة السياسية والانتخابية
قد يستغرب بعض المراقبين حالة الإثارة والحذر التي أصابت المهتمين بالشأن الماليزي، فضلا عن الماليزيين أنفسهم، خصوصا أن التحالف الحاكم لا يزال يحتفظ بأغلبية واضحة.

غير أن ما حدث يمكن أن يفتح بابًا لكسر أو إنهاء المعادلات والتوازنات السياسية، التي حكمت ماليزيا منذ استقلالها سنة 1957، والتي بنيت على المحاصّة العرقية والطائفية.

وإذا ما تمكن حزبا العدالة والعمل الديمقراطي من تحقيق نجاحات إضافية مستقبلا، فقد يفتح ذلك الباب أمام حلول فكرة “المواطنة” والعمل الحزبي القائم على الفكر والإيديولوجية، بحيث يحوي الحزب الواحد أعراقًا وأديانًا مختلفة، بدلا من فكرة المحاصّة والتنسيق الحزبي القائم بين أحزاب لها قواعد عرقية أو طائفية محددة.

أمّا ما قد يثير الحذر والخوف فهو أن هذه المعادلة عندما كادت تُكسر سنة 1969 (حيث حصل التحالف الحاكم بصعوبة على ثلثي المقاعد)، وقعت أسوأ اضطرابات عرقية شهدتها ماليزيا في تاريخها في مايو/أيار 1969. وهو ما أدى لإعلان حالة الطوارئ، ولاستقالة رئيس الوزراء تنكو عبد الرحمن.

عندما استقلت ماليزيا سنة 1957 كانت نسبة الملايو 50% فقط من السكان وكان الصينيون يشكلون 37% والهنود 12%. وكان الملايو مسلمين، والصينيون في أغلبهم بوذيين، كما كان أغلب الهنود هندوسًا.

وكان مثل هذا التعقيد العرقي والطائفي يكفي لحرق الأخضر واليابس نتيجة أي شرارة. ولذلك سعى القادة الماليزيون قبيل الاستقلال لإنشاء تحالف من أكبر الأحزاب الملايوية والصينية والهندية، بما يضمن حالة من الاستقرار والتعايش المشترك تمكِّن الجميع من المحافظة على خصوصيتهم الطائفية والعرقية.

وتمكنت الأحزاب المشاركة في ذلك التحالف من تقاسم “الكعكة” بهدوء، ومن حل المشاكل الطائفية والعرقية خلف الأبواب المغلقة، بعيدًا عن الإثارة الإعلامية والاستعراضات السياسية.

وقد شكل حزب أمنو الذي يمثل مصالح الملايو العمود الفقري للتحالف، وشاركه حزب “أم سي أيه” الصيني و”أم آي سي” الهندي. وتمكن سنة 1955 من الفوز بـ51 مقعدا من أصل 52 من مقاعد مجلس النواب.

وتوالت نجاحاته الانتخابية إلى أن حدثت اضطرابات 1969. فقام رئيس الوزراء الجديد تون رزاق بتوسيع التحالف، وضمَّ إليه أحزابا جديدة سعيًا إلى ضمان دائم لأغلبية الثلثين، باعتبار ذلك مدخلا جوهريا لاستقرار البلد.

وأُطلق على التحالف الجديد اسم الجبهة الوطنية. وقد تطور هذا التحالف ليشمل 14 حزبا، غير أن حزب أمنو ظل يمثل عموده الفقري.

وحتى يضمن التحالف نجاحه في الانتخابات، فقد تم اللجوء إلى نظام انتخابي يعتمد نظام الأكثرية العددية البسيطة للفوز في الدوائر الانتخابية، بحيث يفوز عن كل دائرة مرشح واحد هو الذي يحصل على أعلى الأصوات. وهو ما يجعل من الصعوبة بمكان فوز مرشحي أحزاب المعارضة على مرشحي التحالف المكون من 14 حزبا، ويمثله مرشح واحد فقط في أي دائرة انتخابية.

وقام التحالف الحاكم بتقسيم الدوائر جغرافيا بحيث تُعطى نسبة تمثيل أعلى للملايو، وفرص أعلى لنجاح مرشحيه وخصوصا من أمنو. كما تحكّمت القيادة السياسية في وسائل الإعلام.

وكان من عيوب نظام الأكثرية العددية البسيطة أنه لا يعكس النسبة الحقيقية لشعبية الأحزاب في البرلمان. فعلى سبيل المثال فإنّ التحالف الحاكم (الجبهة الوطنية) حصل سنة 2004 على أكثر من 90% من المقاعد في الوقت الذي لم يحصل فيه على أكثر من 64% من الأصوات، وفي الانتخابات الأخيرة (سنة 2008) حصل على 63% من المقاعد مع أنه لم يحصل على أكثر من 51% من الأصوات.

وعلى الرغم من عيوب هذا النظام، فإنه يستجيب بشكل أو بآخر للحاجة إلى الاستقرار السياسي، وضمان إعطاء مجال أفضل للحزب الفائز بأخذ فرصته في الحكم وتنفيذ برامجه بعيدًا عن مناكفات وتعطيلات واشتراطات الأحزاب الصغيرة.

وعلى أي حال فلا ينبغي المبالغة في الخوف من احتمال تعرض ماليزيا للاضطرابات أو النزاعات الأهلية بسبب النتائج الأخيرة، إذ إن الظروف الحالية مختلفة عن تلك الظروف التي عاشها الماليزيون سنة 1969.

فماليزيا الآن أكثر استقرارا وأكثر ازدهارا، كما أن نسب التمثيل العرقي قد تغيرت لصالح الملايو، أو ما يعرف بأبناء البلد (البوميبوترا) الذين يشكلون حاليا نحو 62% من السكان، في حين انخفضت نسبة الصينيين إلى نحو 25% وانخفضت نسبة الهنود إلى نحو 7% فقط.

وكان الملايو قد ثاروا سنة 1969 خوفًا من تحكُّم الصينيين فيهم، حيث كان الملايو يعانون من التخلف والفقر، وكان نصيب الملايو من الاقتصاد لا يزيد عن 2% فقط.

أما الآن فقد تمكن الملايو من تحسين أوضاعهم الاقتصادية، ومن تحقيق درجات عالية من التعليم، أعطتهم مزيدا من الثقة بأنفسهم في إدارة البلد، وفي استيعاب العرقيات المختلفة.

أسباب تراجع التحالف الحاكم
يمكن استقراء عدد من الأسباب التي أدت إلى تراجع التحالف الحاكم. ومنها الفروق القيادية بين مهاتير محمد وبين خلَفه عبد الله بدوي، فعندما فاز بدوي بالأغلبية الساحقة سنة 2004 كان يُقدِّم بين يديه إنجازات مهاتير دون أن يتحمل أخطاءه، وخصوصا مشكلته مع أنور إبراهيم.

أما في سنة 2008، فقد كان عليه أن يُقدِّم “كشف حسابه” الخاص، وهو ما يبدو أنه لم يكن مقنعا جدا للماليزيين. وفضلا عن أنه كانت تنقصه الكاريزما القيادية التي توفرت لمهاتير، فإنه لم ينجح حسبما يرى العديد من الماليزيين في علاج مشاكل التضخم والفساد والغلاء. ثمّ إنه تعرض لهجوم شخصي من مهاتير، الذي أبدى ندمه على تعيينه خلفا له.

ومن جهة ثانية فقد تعرضت بعض الأحزاب الصينية والهندية المنضوية تحت التحالف الحاكم إلى نوع من التآكل وفقدان المصداقية، ويعد كافيا لهذه الأحزاب أن تقدم بعض الخدمات لمؤيديها أو للأعراق التي تمثلها.

كما أن الحزب الهندي الرئيسي في التحالف تعرض لاهتزازات كبيرة، نتيجة استمرار زعيمه سامي فيلو في زعامته لأكثر من ثلاثين عاما، وتمثيله للهنود في الوزارات الماليزية المتعاقبة للمدة نفسها، مع اتهامات بالمحسوبية والفساد. وكان سقوطه مع نائبه في الانتخابات رسالة قوية من الناخب الهندي برفضه.

ومن جهة ثالثة فقد تمكن “الإعلام البديل” من تعويض جانب كبير من التعتيم الإعلامي الذي تعاني منه أحزاب المعارضة في التلفزيون والصحف الرسمية.

وأدت مواقع الإنترنت ورسائل البريد الإلكتروني ورسائل الهواتف النقالة والمدَوّنات وغيرها أدوارًا مهمة في بيئة تتعامل بشكل قوي مع هذه الوسائل، حيث يبلغ عدد الهواتف النقالة نحو 20 مليونًا، وهناك نحو 11.5 مليون مستخدم للإنترنت.

الجانب الرابع هو أن كثيرًا من الماليزيين على ما يبدو، لم ينسوا “أنور إبراهيم”، بل ظل التعاطف معه قويا نتيجة ما اعتبروه حملات تشويه ظالمة تعرض لها من الحزب الحاكم.

ويظهر أن التحالف الحاكم لم ينجح في “حرق” أنور إبراهيم سياسيا، وبقي ظلُّهُ حاضرا على الرغم من أنه لا يزال ممنوعا من ممارسة العمل السياسي. وكان حصول حزب العدالة الذي يقوده أنور من خلال زوجته على 31 مقعدا وتصدره أحزاب المعارضة، رسالة قوية للنظام.

كما أن المعادلة الجديدة التي يحاول حزب العدالة تسويقها، بتشكيل حزب واحد متعدد الأعراق والأديان بحيث يكون معياره المواطنة والولاء للبلد، قد اكتسبت أرضية أوسع في هذه الانتخابات. وفاز بالفعل عن هذا الحزب نواب ملايو وصينيون وهنود.

ومن ناحية خامسة فإن الخطاب السياسي والانتخابي الذي انتهجه الحزب الإسلامي (باس)، وظهر في “المانفيستو” الذي أعلنه في السنة الماضية، قد جلب له قواعد أوسع من المؤيّدين. إذ إن هذا الخطاب قد تميز بكثير من الواقعية والاعتدال، وملامسة هموم الجماهير.

النقطة السادسة هي أن التطور الاقتصادي الكبير الذي تشهده ماليزيا، وتحقيقها نسب عالية، وافتتاح العديد من المشاريع الكبيرة، دفع عبد الله بدوي لتقديم الانتخابات سنة كاملة.

لكن على ما يبدو فإن الآثار السلبية التي رافقت عملية التنمية لم تكن حاضرة تماما في ذهن بدوي. فقد كانت هناك شكاوى كثيرة من ارتفاع الأسعار وارتفاع معدلات التضخم، ومن استفادة طبقة منتفعين محدودة من الازدهار الاقتصادي.

كما كانت هناك شكاوى من عدم قيام الحكومة بما يكفي لمحاربة الفساد، ومن أنها تقوم فقط باصطياد “الأسماك الصغيرة” الفاسدة. بالإضافة إلى أن الصورة التي قدمها بدوي عن نفسه بوصفه محاربا للفساد قد بهتت على ما يبدو، مع الزمن.

وأخيرًا، فلا يمكن تناسي رغبة الكثير من الماليزيين في صعود أجيال قيادية جديدة ووجوه شابة إلى سدة العمل السياسي، بعد أن جرّب الماليزيون لسنوات طويلة الكثير من القيادات التقليدية للتحالف الحاكم.

ولعل أحزاب المعارضة نجحت في الضرب على هذا الوتر، وتمكنت من توظيفه في خطابها السياسي والإعلامي.


المصدر: الجزيرة نت 13/3/2008