مدة القراءة: 9 دقائق

بقلم نقولا ناصر*

(ربما ما كانت حماس في وضعها الحالي لو لم يتقاعس اليسار الفلسطيني عن “الإصلاح والتغيير” ليترك لها أو لخبراء الليبرالية الغربية هذه المهمة)
(الموقف “اليساري” من حماس يُمعن في توفير غطاء ديموقراطي ووحدوي ويساري زائف لكل الأسباب المستمرة التي قادت إلى الوضع الوطني الراهن)

يبحث اليسار الفلسطيني عن مخرج لأزمته منذ مدة طويلة، غير أن هذا البحث حالياً يكتسب أهمية خاصة لأسباب عدة أهمها ذاتي اتضح في أعقاب دخول حماس بقوة إلى المشهد الفلسطيني مما دفع اليسار إلى المرتبة الثالثة في المعادلة الداخلية بعد أن كان يحتل الترتيب الثاني لفترة طويلة ومن الواضح أن أي تفعيل لمنظمة التحرير سوف يعكس هذا الواقع الجديد، وربما هنا يكمن السبب الرئيسي في الموقف غير المتوازن الذي تتخذه فصائل اليسار في الأزمة بين فتح وبين حماس.

وتحاول الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بتردد ودون حسم حتى الآن، التقاط اللحظة التاريخية لاغتنام فرصة نادرة قد لا تتكرر لإخراج اليسار الفلسطيني من أزمته ولقيادة اليسار الفلسطيني باتجاه استرداد دور له كان في يوم ما فاعلاً في صنع القرار الوطني في عهد “الثورة” قبل أن يتحول إلى دور هامشي تابع جلٌ ما يصبو إليه هو “البقاء” على الخريطة السياسية في عهد “السلطة”، حيث لم يعد هذا اليسار قادراً لا على قيادة السلطة ولا على قيادة المعارضة بينما يتآكل دوره بشكل متسارع قد يقضي إن عاجلاً أو آجلاً على ما تبقى له من أطر جوفاء لا نفع منها، لكن في استمرارها الكثير من الضرر، إذا لم يطرأ على أدائه الراهن أي تغيير جذري في الرؤية والنهج والممارسة.

فعلى سبيل المثال نأت الجبهة بنفسها عن استدراجها إلى المشاركة في تحمل أعباء المسؤولية عن عهد “الطوارئ” وحكومتي رئيس الوزراء سلام فياض اللتين انبثقتا عن هذا العهد حتى لا تتحول إلى أداة في أيدي أحد طرفي أزمة الازدواجية الوطنية التي ما زالت مستحكمة، بعد أن رفضت قبل ذلك المشاركة في حكومة الوحدة الوطنية التي انبثقت عن اتفاق مكة احتجاجاً على المحاصصة الثنائية بين فتح وبين حماس، مُطوٌرة بذلك تمايزها منذ توقيع اتفاقيات أوسلو بمعارضتها لهذه الاتفاقيات وبرفضها المشاركة في المؤسسات التنفيذية، لا التشريعية، لسلطة الحكم الذاتي المنبثقة عنها، لكن في إطار اتفاقها مع قيادة أوسلو على “المشروع الوطني” المنبثق عن وثيقة إعلان الاستقلال عام 1988 وكذلك في إطار منظمة التحرير بصفتها الممثل الشرعي والوحيد للشعب العربي الفلسطيني، بالرغم من هرم هذه المنظمة وتهميشها وتغوٌل سلطة الحكم الذاتي على دورها والحيلولة دون أي تجديد ديموقراطي لمؤسساتها مما أفسح المجال أمام قطاعات شعبية ونخبوية واسعة تطعن في شرعيتها.

وكان أحدث مؤشر إلى أن الجبهة ترفض استدراجها إلى الانحياز إلى أحد طرفي الأزمة الوطنية هو القرار الذي اتخذته بتعليق مشاركتها في “هيئة العمل الوطني” التي تضم الفصائل الأعضاء في منظمة التحرير في قطاع غزة بعد القرار الذي اتخذته اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير في الأول من أيلول/ سبتمبر الجاري باعتماد هذه الفصائل هيئة للعمل الوطني في القطاع، حتى تظل مؤهلة للقيام بدور الوسيط لرأب الصدع الوطني بين الحركتين، انطلاقاً من موقف الجبهة الذي لخصه رئيس دائرة العلاقات السياسية أبو أحمد فؤاد بقوله مؤخراً من دمشق: “نؤكد مجدداً أن نقطة البداية والانطلاق لأية معالجات ناجعة وناجحة تنطلق في الأساس من تراجع حركة حماس عن سيطرتها على قطاع غزة وكذلك تراجع حركة فتح والرئاسة عن إجراءاتها”.

غير أن هذا الموقف النظري المتوازن ما زال بحاجة إلى مزيد من الحسم العملي لكي تكون له حظوظ أكبر في إخراج “اليسار” الفلسطيني بعامة من إسار تبعيته السابقة، لكن فصائل اليسار الأخرى ما زالت تشد الجبهة إلى الخلف وما زالت الجبهة نفسها بحاجة إلى موازنة صوتها المرتفع ضد ما تنتقده من ممارسات حماس بارتفاع مماثل في الصوت ضد الممارسات نفسها، الحالية والسابقة، للطرف الآخر التي أوصلت الوضع الفلسطيني إلى حالته الراهنة.

إن خروج اليسار الفلسطيني من أزمته المزمنة ينطوي على إمكانيات واقعية لإخراج الوضع الوطني برمته من أزمته. لكن القوى التي تعلن ذاتياً انتماءها إلى “اليسار” الفلسطيني، مجتمعة ومنفردة، سواء منها المؤتلفة مع قيادة فتح لمنظمة التحرير والسلطة أو تلك المؤتلفة مع برنامج فتح في إطار السلطة لكن خارج نطاق المنظمة، قد فشلت حتى الآن في القيام بأي دور فاعل في احتواء الأزمة المتفاقمة بين حركتي فتح وحماس، ناهيك عن حلها، لأن اتجاه بوصلة اليسار كان وما يزال ضائعاً في متاهة اليمين الفلسطيني الغارق حتى أذنيه في المراهنة على انتزاع سلام موهوم من براثن التحالف الإستراتيجي الأميركي – الإسرائيلي، المُطبق على المنطقة العربية احتلالاً وحصاراً وعقوبات ووعوداً جوفاء بالسلم والديموقراطية، وفي المراهنة على أن هذا التحالف يمكن أن يكون شريك سلام وهو الذي ما زال لا يعرف غير صناعة الحرب في المنطقة وفي العالم.

لقد ضيعت بوصلة اليسار الفلسطيني اتجاهها منذ تحولت بعض فصائله إلى مُنظٌرة لمتاهة التسوية السياسية السلمية التي يقودها اليمين مع ذاك التحالف في عملية السلام العقيمة الجارية معه تحت مظلة “وثيقة الاستقلال” منذ إعلانها باعتبارها “المشروع الوطني الفلسطيني” عام 1988 بينما رضخت بعض فصائل اليسار الأخرى لقوة الأمر الواقع الراهن حتى تحوٌلت إلى جزء عضوي من هذا الواقع لا تستطيع منه فكاكاً.

وقد حاول اليسار الفلسطيني طوال العقدين المنصرمين من الزمن المحافظة على مسافة بينه وبين القيادة الفلسطينية التي كانت تصنع القرار خلال هذه الفترة لكن أزمة الازدواجية التي نجمت عن الانتخابات التشريعية أوائل عام 2006 وضعت هذا اليسار أمام امتحان لم ينجح فيه حتى الآن بين خيارين استراتيجيين في الاجتهاد الوطني.

ليتبين حاليا أن تلك لم تكن غير مسافة لفظية لم تقنع الجمهور الوطني بالفصل بين اليسار وبين تلك القيادة لأن فصائل اليسار قد تماهت معها في نهجها السياسي وفي مؤسساتها تماهياً حوٌلها إلى “ديكور يساري” لمشروع التسوية السياسية المُعدٌ في مطابخ غُلاة اليمين الأميركي والإسرائيلي وإلى “ديكور ديموقراطي” لنظام سياسي فلسطيني عطٌل دمقرطة كل مؤسسات منظمة التحرير وهي المرجعية الوطنية الشرعية العليا.

لذلك لم يكن مفاجئا أن عاقب الناخب الفلسطيني ائتلاف فتح واليسار معا في كانون الثاني/ يناير عام 2006 بحيث لم يحصل اليسار بكامل مرشحيه من الفصائل والقوى اليسارية كافة على أكثر من 100 ألف صوت تمثل تقريبا خمس ما حصلت عليه فتح وحماس كل على حدة من أصوات.

ولم يجد اليسار في تلك “العقوبة” أي عبرة، في الأقل لوقفة نقدية تُعيد النظر في المسار السياسي الوطني بعامة وفي المسار السياسي لليسار ذاته بخاصة، أو ليحاول اليسار توحيد صفوفه المشتتة التي تكاد العصبية التنظيمية وعبادة الشخصية وتخليد القادة يحوٌل شتاتها إلى حالة دائمة لا أمل في توحيدها، أو ليحوٌل المسافة اللفظية بينه وبين النهج الذي يقود المرحلة باسم الشعب الفلسطيني إلى تمايز مُقنع في النهج والرؤية والممارسة ليفشل اليسار فيما تكاد تنجح فيه تيارات غير يسارية داخل فتح نفسها، نجاحاً له من مقومات المصداقية أكثر مما لليسار لإقناع الجمهور بوجود تمايز حقيقي.

ويجد اليسار الفلسطيني نفسه اليوم أسير تراثه من الأدبيات الماركسية التي كانت مسوغه للانفكاك عن تاريخه القومي العربي دون أن ينجح هذا التراث في توحيده مع الأصيلين في التراث الماركسي من الشيوعيين، خصوصاً بعد سقوط الخلاف على إسرائيل الذي كان يفرق بين الطرفين، بحيث لم يبق لليسار الفلسطيني اليوم من تراثه الماركسي سوى ما يجمعه من “علمانية” مع الليبرالية الرأسمالية بعامة والأميركية بخاصة، مما فتح أمام الكثير من كوادره الناشطة بوابة المنظمات غير الحكومية التي يمولها الغربيون على مصراعيها، ومما يطرح تساؤلاً كبيراً عن هوية هذا اليسار في الوقت الحاضر.

إن أزمة الازدواجية الراهنة في “الشرعية” وفي القيادة أتاحت لليسار فرصة تاريخية لتصحيح اتجاه بوصلته، والانفكاك عن ذاك الواقع، والتعافي لاسترداد دوره ووزنه اللذين كانا له في صنع القرار الوطني، وللقيام بدور وساطة متوازنة بين طرفي الأزمة الوطنية. غير أن كل الدلائل تشير إلى أنه لن يستفيد من هذه الفرصة بالرغم من إدراكه لها ولوعيه بوجود قطاع شعبي ونخبوي واسع يبحث الآن عن بديل لثنائية الاستقطاب الفلسطيني بين الحركتين الرئيسيتين اللتين تقودان النضال الوطني لكن تنازعهما على الشرعية في ظل الاحتلال يشل هذا النضال في شكليه المقاوم والسلمي على حد سواء.

غير أن اليسار ما يزال أسير فرقته وتحالفه مع “المشروع الوطني” الذي ساهم عطل بوصلة اليسار في الضبابية السائدة التي تلف هذا المشروع في مضمونه وحدوده ومدى تساوقه مع الثوابت الوطنية كما في التكتيكات السياسية المستخدمة لتحقيقه. إن مضامين المبادرات “اليسارية” ونقطة البداية التي تطرحها لحل أزمة الازدواجية وعدم التوازن في نقدها لمسؤولية طرفي الأزمة عن هذه الأزمة ليس لها إلا تفسير واحد هو أن فصائل اليسار مُمعنة في النهج نفسه الذي حرف اتجاه بوصلتها وساهم في تفاقم الأزمة الوطنية حدٌ الازدواجية الراهنة وحوٌل هذه الفصائل نفسها إلى جزء من الأزمة بانحياز غير مُقنع كل حججه متهافتة، انحياز بالتأكيد لا يؤهل اليسار منفرداً أو مجتمعاً لأي دور وساطة لكنه بالتأكيد يساهم في تفاقم الأزمة.

ومما لا شك فيه أن استمرار هذا الموقف “اليساري” يُمعن في توفير غطاء ديموقراطي ووحدوي ويساري زائف لكل الأسباب المستمرة التي قادت إلى الوضع الوطني الراهن، بدءاً من العقم السياسي لعملية سلام تدور في حلقة مفرغة، ولنظام سياسي مشلول يرفض التجديد ابتداء من تفعيل منظمة التحرير كأولوية تسبق ما عداها، شلل نتج عن احتكار فريق وطني واحد لصنع القرار وإلى فساد ما زال مستشرياً لكن اليسار لم يجد فيه مسوغاً كافياً للافتراق والتمايز لا سابقاً ولا حالياً، ليصبٌ اليسار جام غضبه الآن على “استبداد” حماس، التي ربما ما كانت لتكون في وضعها الحالي لو لم يتقاعس اليسار عن مهمة “الإصلاح والتغيير”، تاركاً لحماس أن تسبقه إلى رفع شعارها، قبل أن يقطع عليها الطريق خبراء البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والساسة “البورجوازيون” المتساوقون مع سياسات البنك والصندوق.

أزمة هوية
إن الماركسيين الشيوعيين بالرغم من “أمميتهم” هم وطنيون جذورهم ضاربة في عمق الهم الوطني لشعوبهم ولم يكن ماركسيو اليسار الفلسطيني عند “تمركسهم” الذي قادهم بعيداً عن تنظيماتهم القومية العربية الأصلية أقل وطنية منهم، لا بل كان هناك اختلاف في تعريف “الوطني” بين رفاق ماركس في الجانبين حال دون توحدهم فوطنية الشيوعيين “الواقعية” استوعبت واقع قيام الدولة اليهودية في فلسطين وتعاملت معه منذ البداية بينما رفضت هذا الواقع “وطنية” ماركسيي اليسار الفلسطيني مما جعل صوتهم مسموعاً أكثر بين مواطنيهم ومكنهم من استقطاب جماهير “طبقية” كان ينبغي لرفاقهم الشيوعيين استقطابها لولا الخلاف الوطني حول الاعتراف بالواقع الإسرائيلي وحول التعامل معه.

غير أن هذا الخلاف أو الاختلاف سقط بعد “إعلان الاستقلال” الذي تبنى في الجوهر رؤية الشيوعيين للصراع دون أن يتمكن من إثبات صوابها حتى الآن، وكان من المفترض ومن المنطقي أن يقود هذا السقوط إلى وحدة قوى اليسار ليجمع بن حبش ونايف حواتمة وعبد ربه وصالح رأفت، زعيم “فدا”، والبرغوثي وحيدر عبد الشافي، الشيوعي الوطني المخضرم الذي قاد في البداية مفاوضات السلام مع الإسرائيليين في واشنطن بعد مؤتمر مدريد عام 1991 قبل أن تحبط مهمته القنوات التفاوضية السرية التي قادت إلى اتفاق “إعلان المبادئ” (أوسلو) عام 1993.

لكن الجبهة الشعبية تشظت إلى ثلاث جبهات والديموقراطية إلى جبهتين وفدا تفتت بين عبد ربه وبين رأفت وحزب الشعب بين البرغوثي وبين الصالحي والنضال الشعبي صارت شقين (ويعمل أحمد المجدلاني الآن على تأسيس “ملتقى” أو “منتدى” ديموقراطي) والتحرير الفلسطينية اثنتين (حيث أسس عبد الفتاح غانم “حزب الميثاق”) والتحرير العربية تنظيمين بينما رفض عبد الشافي دعوة قوى اليسار لترشيحه في انتخابات الرئاسة أوائل عام 2005 ولجأ إلى تسمية مرشحه منفرداً ثم انزوى مراقباً لحقوق الإنسان في “الهيئة المستقلة” التي أنشأتها السلطة كهيئة مستقلة مالياً وإدارياً، فيما توزعت قيادات ناشطة متوسطة ودنيا من هؤلاء جميعاً، بعضها من خريجي الدول الشيوعية السابقة، على منظمات غير حكومية كثير منها يموله الأوروبيون والأميركيون للدفاع عن قضايا اجتماعية وثقافية ترى الدول الممولة أنها تخدم سياساتها الخارجية فيما سماه الكاتب العراقي ثائر الدوري في مقال له مؤخراً “الاحتلال المخملي” .

قال الدوري: “لقد تحول المجتمع المدني إلى أيديولوجيا لكثير من اليساريين السابقين ولبعض ناشطي حركات التحرر بعد انهيار الإتحاد السوفييتي، فأولئك الذين كانوا ينظّرون لدكتاتورية البروليتاريا وحتمية الحل الاشتراكي تحولوا بكبسة زر واحدة إلى منظرين للمجتمع المدني وحقوق الإنسان وتمكين المرأة، وصاروا يتلقون التمويل من منظمات المجتمع المدني الغربية ذات الواجهات البراقة الموحية بالاستقلالية عن حكوماتها”.

لقد قزم اليسار الفلسطيني دوره حتى يكاد ينحصر في قاسم مشترك له مع الليبرالية الرأسمالية هو “العلمانية”، التي أصبح سوقها رائجاً وصوت الدفاع عنها مرتفعاً ارتفاعاً مثيراً للشبهة السياسية بعد النجاح الساحق الذي أحرزته حركة المقاومة الإسلامية “حماس” في الانتخابات التشريعية الأخيرة، بحيث يكاد الدفاع عنها يتحول إلى هوية مريبة وطنياً لليسار الفلسطيني لا تساهم كثيراً في حل أزمة الهوية التي تشل قدرته على الفعل السياسي والوطني.

خصوصاً وأن هذه الأرضية المشتركة مع الليبرالية الغربية ترتكز على التسليم بإستراتيجية التصالح مع الواقع الإسرائيلي والتسليم بإمكانية الفصل بين هذا الواقع وبين الحليف الأميركي الإستراتيجي له كمدخل “واقعي” لانتزاع الحد الأدنى الممكن من الحقوق الوطنية على أساس “المشروع الوطني” المتمثل في حل الدولتين انطلاقاً من “وثيقة إعلان الاستقلال” من خلال المفاوضات والمقاومة “الشعبية” السلمية التي عجز اليسار حتى الآن عن تفجيرها بديلاً للمقاومة المسلحة، ويلفت النظر هنا أن فتح وحماس، لا اليسار، كانتا العمود الفقري للانتفاضتين “الشعبيتين” الأولى والثانية كما كانتا العمود الفقري للمقاومة المسلحة.

فاليسار الفلسطيني ما زال مصراً على التمسك بصفة اليسار دون أن يوضح نظرياً أو ممارسة هوية هذا اليسار وهل هو يسار بين الرأسمالية والعولمة وبين نقيض لهما لا يوضح اليسار ماهيته، أو هو بين السلام وبين المقاومة، أو هو بين الطبقة العاملة وبين مستغليها، إلخ. وإنها لمفارقة حقاً بين رفع شعار اليسار وبين إغفال هذا اليسار لأولوية الدفاع عن حقوق العاملين الفلسطينيين، وهذه مهمة ترتبط بكل يسار في العالم، في مجتمع يكاد يكون الشعب جميعه طبقة عاملة سجلت رقماً قياسياً عالمياً في معدلات البطالة وحيث القطاع الخاص يساهم في أكثر من 74 في المائة من إجمالي الناتج الوطني. وفي وقت يستعد فيه المليونير النابلسي منيب المصري مع 120 من رجال الأعمال الفلسطينيين لتأسيس حزب سياسي لطبقتهم ما زال عمال فلسطين دون حزب سياسي لهم لأن قوى اليسار الفلسطيني ما زال كل منها يدعي أنه هو حزبهم.

وحتى “الفساد” الذي استشرى حد إحالة ملفات له إلى النائب العام علناً لم يجد اليسار فيه قضية تستحق الافتراق عن قيادة السلطة وفتح ودخول مواجهة معها، لا قبل ولا بعد دخول حماس إلى المشهد الفلسطيني شريكة مرفوضة في هذه السلطة، ولم يجد في هذه القضية ما يستحق الملاحقة القضائية والمتابعة السياسية والتحريض الشعبي على الفاسدين أو المتهمين بالفساد لأن هؤلاء شركاء لليسار في “مسيرة السلام” سوف يتخلص “المشروع الوطني” منهم في الوقت المناسب بعد أن يحسم تناقضه الرئيسي مع الاحتلال.

وحال اليسار الفلسطيني هذه أفرزت ظاهرة لافتة للنظر، وهي”انفكاك” رموز معروفة له عنه. وإذا كان يمكن تفسير “تقاعد” الأب الروحي للجبهة الشعبية الدكتور جورج حبش بحالته الصحية وبتحفظ له على اختيار الجبهة أن تركب عربة اتفاقيات أوسلو كمعبر مشروط بشروطها للعودة إلى جزء من الوطن، عودة لم يستسغها تاريخه كمفكر ومناضل قومي عربي كان من الآباء المؤسسين لإستراتيجية العودة والتحرير التي أسست لثوابت منظمة التحرير التي شوشها “إعلان الاستقلال” عام 1988، فإن انفكاك مصطفى البرغوثي ثم بسام الصالحي عن “حزب الشعب”، الوريث الشرعي للحزب الشيوعي الفلسطيني، وياسر (أديب) عبد ربه عن الجبهة الشعبية فالجبهة الديموقراطية ثم “فدا”، على سبيل المثال، هو انفكاك لا يمكن تفسيره إلا بان وزن هذه التنظيمات اليسارية لم يعد قادراً على استيعاب الطموحات الشخصية لهذه الرموز للعب دور وطني أكبر عبر أطر أخرى يطلون منها على قطاعات أوسع من الشعب.

إن استغلال قيادة منظمة التحرير، قبل أوسلو وبعدها، لليسار الفلسطيني ككاسحة ألغام لإطلاق بالونات اختبار مرفوضة وطنياً باتجاه الإسرائيليين لشق المزيد من قنوات الاتصال معهم كانت وما زالت ممارسة سياسية مقبولة من الطرفين وربما تكون مبادرة جنيف بين عبد ربه وبين وزير العدل الإسرائيلي السابق يوسي بيلين خير مثال على هذه الممارسة التي أفقدت اليسار الكثير من شعبيته. فياسر عبد ربه هو الأمين العام للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ووزير الإعلام والثقافة السابق لسلطة الحكم الذاتي وبالتالي لا يمكنه إطلاق مثل هذه المبادرة دون ضوء أخضر من القيادة الفلسطينية.

إن الرأي العام الفلسطيني يعتبر اليسار منظراً لعملية السلام العقيمة التي فجر عقمها الانتفاضة الشعبية الثانية في الأراضي المحتلة وينسب لليسار كل ما ترتب على عقمها من شلل أصاب النضال الوطني ومؤسساته ومن تغول للاحتلال زاد أكثر من الضعف أعداد المستعمرات ومستوطنيها وعزل القدس وأطلق مبادرات مرفوضة وطنياً مثل مبادرة جنيف بغطاء من الموافقة الرسمية الفلسطينية ولذلك لم يكن مستغرباً أن تنفض جماهير اليسار عنه مثلما انفضت جماهير “العودة والتحرير” عن منظمة التحرير بعد أن وجد اللاجئون بصفة خاصة، وهم أكثر من 70 في المائة من سكان قطاع غزة و 30 في المائة من سكان الضفة الغربية، أن لا مصلحة لهم في حل الدولتين الذي يتبناه اليسار والمنظمة كلاهما في إطاره الحالي الذي لا يتفق حتى مع وثيقة “إعلان الاستقلال”، ولم يكن مستغرباً كذلك أن تتحول الجماهير السابقة لكليهما إلى حماس.

* كاتب عربي من فلسطين [email protected]


14/9/2007