مدة القراءة: 6 دقائق

بقلم: د.محسن محمد صالح

يحتفل الكيان الإسرائيلي هذه الأيام بالذكرى التاسعة والخمسين لإنشائه، بينما يحيي الفلسطينيون الذكرى نفسها بالحزن والألم والأمل في العودة والتحرير.

بنى المشروع الصهيوني فكرته على أساس هجرة اليهود من أنحاء العالم إلى فلسطين، وعلى تشريد الفلسطينيين وانتزاع ممتلكاتهم وأراضيهم. والآن، وبعد كل هذه المدة.. هل يشعر الصهاينة في فلسطين بالاطمئنان على مشروعهم ومستقبله، ولو من ناحية سكانية ديمغرافية؟

هجرة اليهود وتهجير الفلسطينيين
عندما أكمل البريطانيون احتلالهم لفلسطين سنة 1918، وبدؤوا بالإشراف بأنفسهم على إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، كان عدد اليهود فيها حوالي خمسين ألفا أي 8% من مجموع السكان مقابل 92% هي نسبة السكان العرب في فلسطين.

وخلال ثلاثين عاماً من الرعاية والحماية البريطانية للمشروع الصهيوني، هاجر إلى فلسطين 483 ألف يهودي، وعند اندلاع حرب 1948 كان قد بلغ عدد اليهود نحو 650 ألفاً (أي 31.9% من مجموع السكان)، أما الفلسطينيون العرب فبلغ عددهم مليوناً و390 ألفاً (68.1% من مجموع السكان). ولم يكن اليهود يملكون سوى نحو 6% من أرض فلسطين.

ولذلك، عندما صدر قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين في نوفمبر/تشرين الثاني 1947، ورغم كل ما فيه من بطلان وظلم وإجحاف حين أعطى 54% من فلسطين للمنطقة التي يفترض أن يسيطر عليها اليهود، فإن الصهاينة وجدوا أنفسهم أمام حقيقة أن هذه المنطقة يسكن فيها نحو 500 ألف يهودي مقابل 497 ألف عربي؛ وأن العرب (لو افترضنا نظرياً أنه لن تكون هناك حرب) سيتجاوز عددهم عدد اليهود في بضع سنين، ولن يكون هناك فرصة لإنشاء دولة يهودية.

ولذلك، قام الصهاينة بحل هذه “المشكلة الديمغرافية” عبر تنفيذ أحد أبشع عمليات التطهير العرقي والمذابح في القرن العشرين، وقاموا بالسيطرة على 77% من أرض فلسطين، وهجروا نحو 800 ألف فلسطيني، سواء من تلك الأراضي التي قرّرت لدولتهم، أم من الأراضي الأخرى التي استولوا عليها. وهذا يعني أن العنصر الأساسي في إنشاء الدولة اليهودية لم يكن الهجرة اليهودية بقدر ما كان عملية اقتلاع وتهجير الفلسطينيين من أرضهم.

في نهاية 1948 كان الصهاينة قد أعادوا صياغة البنية الاجتماعية والديمغرافية للأرض التي أنشؤوا عليها كيانهم الإسرائيلي، فبلغ عدد السكان فيها 872 ألفاً منهم 716 ألف يهودي (82.2%) و156 ألف عربي (18.8%).

بنيت النظرية التوسعية الصهيونية على أساس “أرض أكثر وعرب أقل”، وعلى أساس فكرة “القضم والهضم”؛ بما يعني تفريغ الأرض من أهلها العرب وتهجيرهم بشكل يترافق مع الهجرة اليهودية، بحيث تحدث عملية إحلال اليهود مكان الوجود العربي.

فإذا ما تمت عملية “الهضم” وتحققت الأغلبية اليهودية، يتم احتلال “قضم” أرض عربية جديدة ليتم بعد ذلك تهويدها تدريجياً وهكذا.

وهذا ما حاولت إسرائيل فعله بعد حرب 1967، عندما قامت بتهجير أكثر من 300 ألف فلسطيني، وضمت رسمياً القدس والجولان، وقامت بهجمة استيطانية شرسة بنت فيها أكثر من 160 مستوطنة وأسكنت فيها أكثر من 460 ألف مستوطن يهودي.

نضوب الهجرة اليهودية
وعلى الرغم مما حققه المشروع الصهيوني من “إنجازات”، فإنه يواجه عدداً من التحديات السكانية “الديمغرافية”. ويشكِّل هاجس نضوب الهجرة اليهودية إلى فلسطين أحد أبرز هذه التحديات، إذ تمكن الكيان الإسرائيلي في الفترة 1948-2006 من استجلاب نحو مليونين و900 ألف مهاجر يهودي إلى فلسطين. ومن خلالهم تمكن من المحافظة على أغلبية ساحقة لليهود في إسرائيل.

كان المخزون الرئيسي الذي استقدمت منه إسرائيل مهاجريها اليهود في الفترة التي تلت إنشاءها مباشرة، وخصوصاً خمسينيات القرن العشرين هو العالم العربي والإسلامي.

فخلال ثلاث سنوات (1948-1951) تضاعف عدد اليهود في فلسطين بهجرة 687 ألف يهودي جاء منهم نحو 442 ألفاً من بلدان العالم العربي والإسلامي.

وقد أسهمت هجرة “يهود العرب” في توفير المادة البشرية واليد العاملة التي رسخت وجود الدولة العبرية وأمدتها بعناصر النمو والحماية.

وبغض النظر عن المؤامرات التي حيكت لتهجير يهود العرب، وتواطؤ بعض الأنظمة العربية في ذلك، فإن هؤلاء شكلوا أحد أعمدة المشروع الصهيوني.

ومع النصف الأول من ستينيات القرن العشرين كان مخزون اليهود العرب قد أشرف على النفاد.

وللعلم فإنه في سنة 2005 كانت الإحصاءات الرسمية الإسرائيلية تشير إلى وجود 493 ألف يهودي مغربي، و239 ألف يهودي عراقي، و142 ألف يهودي يمني، و122 ألف يهودي تونسي وجزائري، و69 ألف يهودي ليبي، و57 ألف يهودي مصري، و36 ألف يهودي سوري ولبناني، فضلاً عن يهود تركيا وإيران وغيرها.

ومع انهيار الاتحاد السوفياتي لجأ الصهاينة إلى استنفاد المخزون الهائل لليهود هناك وفي شرق أوروبا. وفي الفترة من 1989 وحتى نهاية 2006 هاجر إلى إسرائيل مليون و224 ألفاً معظمهم من تلك البلدان.

كان واضحاً أن زخم الهجرة من روسيا وشرق أوروبا قد أخذ بالتراجع خصوصاً في السنوات الأخيرة، لأن معدل الهجرة الكلي إلى إسرائيل كان في حدود 20 أو 25 ألفاً سنوياً، بعد أن كان هذا المعدل يقترب من حاجز مائة ألف سنوياً خلال العقد الماضي.

وقد واجه الصهاينة مشكلة أن اليهود الذين يعيشون في الولايات المتحدة (نحو خمسة ملايين و700 ألف) وفي دول أوروبا الغربية (فرنسا 600 ألف، وبريطانيا 300 ألف) لا يرغبون في الهجرة إلى إسرائيل بسبب أوضاعهم الاقتصادية الجيدة.

ولذلك اتجهوا إلى استجلاب يهود الفلاشا من الحبشة، بينما ينصب كثير من الاهتمام هذه الأيام على ما يدّعون أنه إحدى القبائل اليهودية في الهند. غير أن الحقيقة تُظهر أن استجلاب اليهود إلى فلسطين قد وصل إلى مداه أو يكاد.

إشكالية التكاثر السكاني
أما الهاجس الديمغرافي الثاني فيكمن في ضعف نسبة التكاثر لدى اليهود مقارنة بالفلسطينيين. إذ يبلغ معدل الزيادة السنوية لليهود في إسرائيل 1.85% وهي تقريباً نصف معدل الزيادة السنوية للفلسطينيين البالغة 3.4%.

وتلد المرأة اليهودية حالياً ما معدله 2.6 من الأطفال (26 طفلاً لكل 10 نساء)، أما المرأة الفلسطينية فتلد ما معدله 4.2 أطفال (42 طفلاً لكل 10 نساء).

ومن الملاحظ (حسب المركز الفلسطيني للإحصاء) أن معدل الخصوبة الكلية للمرأة الفلسطينية في الضفة الغربية انخفض من 5.6 أولاد سنة 1997 إلى 4.1 أولاد سنة 2003، بينما انخفض في قطاع غزة من 6.9 إلى 5.8 في الفترة نفسها.

ويضع بعض الباحثين علامات الاستفهام والاتهام حول أسباب تناقص خصوبة المرأة الفلسطينية، ويعده باحثون أمثال يوسف كرباج وسلمان أبو ستة مسألة نادرة جدا.

ولا يستبعد أبو ستة استخدام إسرائيل أسلحة بيولوجية سرية تستهدف خفض أعداد الفلسطينيين، ويستشهد بالتقارير الصحفية التي تحدثت عن حالات إغماء وهستيريا جماعية بين طالبات المدارس، وعن ضحايا استنشاق الغازات السامة، وعن تقارير وزارة الصحة الفلسطينية حول زيادة حالات الإجهاض والسرطان بشكل غير مسبوق. وإلى أن يثبت ذلك أو عكسه تبقى علامات الاستفهام قائمة.

ومع ذلك تبقى معدلات الزيادة السكانية لدى الفلسطينيين أكبر من مثيلتها لدى الإسرائيليين.

وحسب التوقعات فإن عدد الفلسطينيين في فلسطين التاريخية (فلسطين المحتلة سنة 1948 إسرائيل، والضفة الغربية وقطاع غزة) سيبدأ في سنة 2010 تقريباً بتجاوز عدد اليهود (نحو خمسة ملايين و600 ألف لكل من الفلسطينيين واليهود).

أما سنة 2020 فيتوقع حسب الإحصاءات الإسرائيلية نفسها أن يصل عدد الفلسطينيين إلى ثمانية ملايين و200 ألف، مقابل ستة ملايين و300 ألف يهودي.

نظر الصهاينة بقلق عميق إلى تزايد أعداد الفلسطينيين، وسموا ذلك “قنبلة ديمغرافية”، وهو وصف مغلوط يستكثر على الفلسطينيين تكاثرهم الطبيعي على أرضهم ويعده خطرا، بينما يبيح الصهاينة لأنفسهم أن يستجلبوا يهودا من 110 بلدان يتحدثون 82 لغة ليتضاعف عدد اليهود في إسرائيل منذ إنشائها تسعة أضعاف.

كان الخوف من الخطر الديمغرافي الفلسطيني أحد أهم الأسباب التي دفعت إسرائيل إلى التفكير في الانسحاب أحادي الجانب، وأحد الأسباب التي أدت إلى تصاعد أصوات إسرائيلية متطرفة تنادي بطرد الفلسطينيين من الأرض المحتلة سنة 1948 أو بما يسمى فكرة الترانسفير.

وفكرة الترانسفير هي أيضاً دون شكّ أحد الأسباب في وضع الضفة الغربية وقطاع غزة في أوضاع بئيسة قاسية لإجبار أكبر عدد من الفلسطينيين على الهجرة منها.

كانت فكرة الانسحاب الأحادي الجانب التي تبناها شارون وتأسس حزب كاديما الذي يحكم حاليا لأجل تنفيذها؛ مبنية على أساس التخلص من العبء السكاني الفلسطيني في الضفة والقطاع، مع الاحتفاظ بأكبر قدر من الأرض، وخصوصاً الكتل الاستيطانية، وما وراء جدار الفصل العنصري ومنطقة القدس.

وقد ترافق ذلك مع بروز مخاوف إسرائيلية من أن يتوقف الفلسطينيون عن المطالبة بفكرة الدولتين بعد أن يصبحوا الأغلبية ويعودوا للمطالبة بإقامة دولة واحدة وبحقوقهم السياسية والمدنية فيها، مع السعي لإزالة النظام العنصري الإسرائيلي الذي يميز اليهود عن غيرهم، والنضال على طريقة السود في جنوب أفريقيا، مما قد يفتح المجال لإنهاء الطبيعة اليهودية للدولة وفق قواعد واعتبارات يقبلها (ولو نظريا) المجتمع الدولي.

غير أن هذا الخيار تكتنفه الكثير من العقبات والتعقيدات، خصوصاً وأن جوهر المشكلة ليس في إقناع المجتمع الدولي بعدالة القضية الفلسطينية، حيث حصلت حتى الآن على مئات القرارات الدولية الداعمة، وإنّما في انعدام الإرادة الدولية في تنفيذ القرارات وإعطاء الفلسطينيين حقوقهم بسبب الموقف الأميركي ومواقف الدول الغربية.

حق العودة للاجئين الفلسطينيين
وافقت الأمم المتحدة على دخول إسرائيل في عضويتها شرط أن تسمح بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم، وهو ما لم تفعله إسرائيل إطلاقاً، على الرغم من أن قرار حق العودة تكرر إصداره أكثر من مائة مرة!

ببساطة، كان تنفيذ قرار العودة بالنسبة للإسرائيليين يعني القضاء على المشروع الصهيوني وعلى الدولة اليهودية، لأن الفلسطينيين في حال عودتهم سيشكلون غالبية السكان ويسيطرون على الدولة عبر أي انتخابات ديمقراطية نزيهة! ولذلك فربما كان التفاوض بالنسبة لليهود على القدس أهون من التفاوض على حق العودة للفلسطينيين!

ووفق المعطيات الإحصائية، فإن عدد الفلسطينيين من أبناء الأرض المحتلة سنة 1948 ممن تم تهجيرهم، يبلغ حالياً نحو خمسة ملايين و300 ألف.

فإذا ما عاد هؤلاء وتم ضمهم إلى الفلسطينيين الذين بقوا فيما يُعرف بإسرائيل والبالغ عددهم مليوناً و150 ألفاً، فإن مجموع الفلسطينيين سيصبح ستة ملايين و450 ألفاً مقابل خمسة ملايين و400 ألف يهودي حسب إحصائيات نهاية سنة 2006؛ أي 54.4% للفلسطينيين مقابل 45.6% لليهود.

ولذلك فإن الإسرائيليين لا يتعاملون مع قضية عودة الفلسطينيين إلى أرضهم باعتبارها مسألة سياسية أو تفاوضية يمكن حلها وفق القانون الدولي أو وفق حقوق الإنسان، وإنما باعتبارها مسألة وجودية، لأن كيانهم عندما تشكل كان يعني إلغاء الآخر الفلسطيني، ولأن عودة الآخر تعني إنهاء مشروعهم حتى لو ظل كل اليهود في فلسطين.

ويبقى الفلسطيني اللاجئ الضحية الحية الحاضرة التي تقض مضاجع المشروع الصهيوني ما استمرت في التمسك بحقها، لأن حق العودة حق فردي لأي لاجئ، وهو حق مقدس، كما أنه حق ممكن التنفيذ من ناحية قدرة الأرض على الاستيعاب، ومن ناحية أن معظم القرى التي خرج منها اللاجئون لا تزال خالية.

وحق العودة أيضا تكفله القوانين الدولية وقرارات الأمم المتحدة، ولذلك فإن السبب الوحيد في تعطيله هو اختلال ميزان القوى لصالح العدو الإسرائيلي المدعوم من أميركا.

الهجرة المعاكسة
ويعيش المشروع الصهيوني إشكالية ديمغرافية أخرى مرتبطة بالهجرة اليهودية المعاكسة من إسرائيل، إذ أظهرت تقديرات نُشرت في أكتوبر/ تشرين الأول 2006 إلى أن ما بين 700 و750 ألف إسرائيلي يعيشون خارج إسرائيل، يقيم 60% منهم في أميركا الشمالية و25% في أوروبا الغربية.

كما أشارت معطيات السفارة الإسرائيلية في موسكو إلى أن خمسين ألفا من المهاجرين الروس إلى إسرائيل في العقد الماضي قد عادوا إلى روسيا.

وقد لعبت الانتفاضة الفلسطينية والأوضاع الأمنية دورها في هجرة هؤلاء، كما أن للعوامل الاقتصادية وضعف الإيمان بالمشروع الصهيوني أثرها في دفع هؤلاء إلى البحث عن فرص عمل وحياة أفضل.

هَدَفَ هذا المقال إلى الإشارة إلى بعض المشاكل السكانية التي يعاني منها المشروع الصهيوني، ولكن لا ينبغي المراهنة على هذه الإشكالية وحدها، إذ إن جوهر الصراع مع المشروع الصهيوني ليس في عدد السكان أو في نسب التكاثر لأن العرب يبلغون نحو 300 مليون، والمسلمون نحو ألف و500 مليون.

والمشكلة أساساً في قدرة الفلسطينيين والعرب والمسلمين على تحديد منهج سليم للعمل قادر على استنهاض الأمة وتحرير إرادتها، وتعبئة إمكاناتها وتوحيد جهودها.

وإلا فإنهم سيكونون مجرّد “غثاء” كغثاء السيل، وستظل الأمم تتداعى عليهم كما تتداعى الأَكَلة على قصعتها.

 


المصدر: الجزيرة نت 22/6/2007