مدة القراءة: 6 دقائق

في فبراير/ شباط 2004 قام الجيش الإسرائيلي بتدريب تسع من كتائبه تضم 1800 جندي على مواجهة السيناريوهات المحتملة لقيام حماس بعمليات اختطاف لجنوده، إثر تصريحات الشيخ أحمد ياسين بأن حماس ستقوم باختطاف جنود إسرائيليين لإجبار الكيان الصهيوني على إطلاق سراح الأسرى.

وطلبت هيئة الأركان من الجنرال إيلان شلاين بإعداد السيناريوهات المحتملة، وكلفت الجنرالين طال روسو وأفيف كوخافي الإشراف على التدريب.

وقد ألزمت قيادة الجيش ضباطها عدم لبس البزات العسكرية التي تُظهر رتبهم في مناطق سكناهم، وأن يكونوا مسلحين في كل تحركاتهم، وحتى في الإجازات، وأن يطلبوا من أسرهم عدم إخبار أي شخص بالمهام التي يقومون بها.

اغتالت إسرائيل الشيخ أحمد ياسين في الشهر التالي، ولم تتمكن حماس من اختطاف أي من الجنود في ذلك الوقت. ولكن هاجس الاختطاف ظل يُشغل الإسرائيليين، بينما لم تنقطع الرغبة فيه لدى حماس.

لماذا الاختطاف؟

تصبح عمليات الاختطاف رسالة وفاء للأسرى الذين لا يظهر في المدى المنظور ما يُبشر بإطلاق سراحهم، خصوصا أولئك الذين يقضون أحكاما طويلة، وعادة ما تتم عملية التبادل مقابل أعداد كبيرة من الأسرى وهو ما يشكل حافزا قويا للاختطاف.

تعبر عمليات اللجوء إلى اختطاف أسرى إسرائيليين عن مدى حساسية وأهمية قضية الأسرى في سجون الاحتلال، وعن مدى الضغط الشعبي باتجاه تحريرهم، وعن كون قضية الأسرى قضية وطنية تحظى بالإجماع وتلتقي عليها كافة القوى الوطنية.

كما تعبر من جهة أخرى عن انسداد الأفق السياسي، وانعدام أو فشل الخيارات السلمية والرسمية المتاحة لحل مشكلة الأسرى، في وجه الإصرار الإسرائيلي على استخدام ورقة الأسرى كأحد “ألعابه” المفضلة في الضغط والابتزاز السياسي.

دخول السجون الإسرائيلية أصبح جزءا من الهموم والحياة اليومية الفلسطينية، وأخذ يختلط بخبزهم ودمائهم، وأصبح جزءا من تكوين المناضل والمجاهد الفلسطيني، وصار صموده في السجن شهادة يعطيها له المجتمع الفلسطيني وينظر إليه من خلالها بتقدير وإجلال أكثر مما ينظر إلى الشهادات الجامعية.

والمقاوم التواق إلى حرية أرضه وكرامة شعبه، عادة ما تُهدر حريته وكرامته الشخصية بالسجن والتعذيب. ولذلك فإن تحريره وإكرامه يصبح دينا في عنق شعبه وحركات المقاومة.

وتصبح عمليات الاختطاف رسالة وفاء للأسرى الذين لا يظهر في المدى المنظور ما يبشر بإطلاق سراحهم، خصوصا أولئك الذين يقضون أحكاما طويلة. ومن جهة أخرى، فإن عملية التبادل عادة ما تتم مقابل أعداد كبيرة من الأسرى وهو ما يشكل حافزا قويا للاختطاف.

قضية الأسرى

إن قضية الأسرى في سجون الاحتلال الصهيوني من أكثر القضايا التي تشغل الفلسطينيين وحركات المقاومة. فمنذ الاحتلال الإسرائيلي للضفة والقطاع سنة 1967 وحتى الآن أسر الإسرائيليون نحو 650 ألف فلسطيني لمدد مختلفة، وجلهم لأسباب متعلقة بمقاومتهم السياسية أو المسلحة للاحتلال. وهي مقاومة تضمن حقهم فيها كافة الشرائع فضلا عن القانون الدولي.

وتذكر أحدث التقارير لوزارة الأسرى، والصادرة في أكتوبر/ تشرين الأول 2006، أن هناك نحو عشرة آلاف وخمسمائة سجين فلسطيني وعربي يعيشون في سجون الاحتلال، موزعين على حوالي ثلاثين سجنا ومعتقلا، منهم 8941 من الضفة الغربية، و832 من قطاع غزة، و528 من القدس، و147 من فلسطينيي الـ1948، و52 من أبناء الدول العربية.

ومن بين هؤلاء 5133 ممن صدرت بحقهم أحكام مختلفة، و850 محكومون إداريا (أي دون تهم محددة)، بينما هناك 4517 موقوفا بانتظار المحاكمة.

ومن بين هؤلاء الأسرى 632 أسيرا صدرت بحق كل واحد منهم أحكام تزيد عن خمسين عاما، و738 أسيرا صدرت بحقهم أحكام بين 15 وخمسين عاما. وهناك الآن بين الأسرى نحو 400 طفل و120 امرأة.

يمارس الكيان الإسرائيلي لعبته التي هي أقرب إلى لعبة “الباب الدوار”، فهو لا يكاد يطلق بعض الأسرى حتى يعود لاعتقال آخرين كجزء من برنامجه في محاولة إذلال وتركيع الشعب الفلسطيني الصامد، ولتظل ورقة الأسرى ورقة مساومة وضغط بيده.

في عام 2005، وعلى الرغم من أجواء التهدئة التي التزمت بها الفصائل الفلسطينية، زادت أعداد السجناء من 7800 في مطلع 2005 إلى 9200 سجين في نهاية السنة نفسها.

وتم اعتقال 3495 فلسطينيا خلال تلك السنة، ظل منهم 1600 أسير خلف القضبان. وبذلك تبخرت القيمة العملية لإطلاق الكيان الإسرائيلي 900 أسير وفق اتفاق شرم الشيخ مع محمود عباس في فبراير/ شباط 2005.

صفقات تبادل سابقة

لو نجحت الوساطات المختلفة في تنفيذ صفقة تبادل أسرى مقابل الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، فإنها ستكون الصفقة السادسة والعشرين في عمليات تبادل الأسرى مع الكيان الإسرائيلي منذ إنشائه.

فقد حدثت حتى الآن خمس وعشرون عملية تبادل أسرى. وقد مارس عمليات الأسر والاختطاف والسعي لتبادل الأسرى معظم الفصائل الفلسطينية، خصوصا في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين.

وكان من أشهرها إطلاق 4700 أسير في 2/3/1983 من سجن أنصار في الجنوب اللبناني و65 أسيرا من السجون الإسرائيلية في مقابل إطلاق سراح ثمانية جنود إسرائيليين أسرت حركة فتح ستة منهم وأسرت الجبهة الشعبية القيادة العامة الاثنين الآخرين.

وفي 20/5/1985 أفرجت تل أبيب عن 1150 أسيرا فلسطينيا وعربيا مقابل الإفراج عن ثلاثة جنود أسرتهم الجبهة الشعبية القيادة العامة.

وكانت آخر عمليات تبادل الأسرى تلك التي تمت في 29/1/2004 والتي سلم بموجبها حزب الله اللبناني رفات ثلاثة جنود إسرائيليين والأسير إلحنان نتنباوم، بينما أفرج الإسرائيليون عن 400 أسير فلسطيني و23 لبنانيا وخمسة سوريين وثلاثة مغاربة وثلاثة سودانيين وليبي واحد والمواطن الألماني ستيفان مارك المتهم بعلاقته بحزب الله، كما أعادت تل أبيب جثث 59 لبنانيا.

محاولات حماس في الاختطاف

وتعود محاولات حماس لاختطاف جنود إسرائيليين إلى بداياتها الأولى، عندما قامت إحدى مجموعاتها العسكرية بأسر الجندي آفي سبورتاس في 3/2/1989 ثم قتله، ثم خطف الجندي إيلان سعدون في 3/5/1989 وقتله.

وقد تلا ذلك أحد أكثر العمليات الإسرائيلية شراسة ضد حماس طالت المئات من أنصارها، بما في ذلك اعتقال الشيخ أحمد ياسين والحكم عليه بمؤبدين و15 عاما.

وفي 13/12/1992 قامت حماس باختطاف الرقيب أول نسيم توليدانو، وطالبت بإطلاق الشيخ أحمد ياسين مقابل إطلاق سراح توليدانو، وعندما رفض الإسرائيليون إطلاقه قامت حماس بقتله. وقد تلا ذلك حملة اعتقالات إسرائيلية شملت 1300 من أعضاء حماس وأنصارها، وتم إبعاد 415 شخصا معظمهم من حماس إلى جنوب لبنان.

وقامت حماس في الأول من يوليو/ تموز 1993 باحتجاز حافلة إسرائيلية في القدس تقل أربعين راكبا، وطالبت مقابل ذلك بالإفراج عن الشيخ أحمد ياسين وعن خمسين من كتائب القسام وخمسين آخرين من الفصائل الفلسطينية الأخرى (فتح، والجهاد، والشعبية، والديمقراطية والقيادة العامة) وعن عبد الكريم عبيد من حزب الله.

غير أن الجيش الإسرائيلي أنهى العملية نهاية دموية باقتحام الحافلة فاستشهد اثنان من كتائب القسام بعد مطاردتهما، وجرح الثالث بجراح خطيرة في أثناء الاقتحام بينما قتل إسرائيليان وجرج ثلاثة آخرون.

وفي 11/10/1994 أعلنت حماس أسر الجندي نحشون فاكسمان، وطالبت بالإفراج عن مئات المعتقلين وعلى رأسهم الشيخ أحمد ياسين.

وقد قام الكيان الإسرائيلي بالضغط على السلطة الفلسطينية التي قامت بدورها بحملة اعتقالات واسعة شملت أكثر من 400 من كوادر حماس وأدت تحقيقاتها إلى الوصول إلى طرف الخيط الذي قاد القوات الصهيونية لمعرفة مكان احتجاز فاكسمان.

وفي مساء 14/10/1994 قامت وحدة عسكرية إسرائيلية خاصة باقتحام المكان مما أدى إلى مقتل الرهينة وقائد الوحدة المقتحمة وجرح 12 جنديا إسرائيليا واستشهاد ثلاثة من عناصر القسام واعتقال رابع.

وفي صيف 1996 قتلت خلية صوريف القسامية الجندي شارون أدري وأخفت جثته.

من الواضح أن عمليات اختطاف حماس للجنود الإسرائيليين بقصد مبادلتهم بالأسرى لم تؤد إلى تحقيق أهدافها المعلنة، ولكنها كانت في كل مرة تشكل هزة عنيفة للمجتمع الصهيوني ولطمة قاسية لأمنه واحتياطاته، وكانت تنجح في تسليط الضوء على قضية الأسرى والمعتقلين في سجون الاحتلال. كما كانت تتسم في كل مرة بردود فعل مدوية من الجانب الإسرائيلي.

عملية الوهم المتبدد وانعكاساتها

العملية العسكرية التي نفذتها كتائب القسام التابعة لحماس يوم 25 يونيو/ حزيران 2006 بالتعاون مع ألوية الناصر صلاح الدين وجيش الإسلام، حققت عدة نجاحات تكتيكية.

فالعملية بحد ذاتها كانت عملية عسكرية نوعية نفذت بمهارة فائقة في أقل من 15 دقيقة في معسكر إسرائيلي، وانسحب المهاجمون ومعهم الجندي الأسير دون أن يمكن تعقبهم.

والعملية (وفق الإمكانات الفلسطينية المحدودة) كانت ردا قويا على التمادي الإسرائيلي في قتل المدنيين واستمرار الاغتيالات خصوصا بعد المجزرة التي ذهبت ضحيتها عائلة الطفلة الفلسطينية هدى غالية.

وأسهمت العملية في تغيير المسار الداخلي الفلسطيني إذا استرجعت حماس، في ذلك الوقت، الكثير من شعبيتها وهيبتها ومصداقيتها. وأعطت رسالة قوية من حماس على إصرارها على الجمع بين خطي السلطة والمقاومة. كما خففت عن حماس الكثير من الضغوط التي كانت تمارسها أطراف فلسطينية وعربية لتقديم تنازلات سياسية أو لإسقاط حكومتها.

حماس كانت تتعرض لضغط شديد من قيادة السلطة وعدد من رموز فتح طوال مايو/ أيار ويونيو/ حزيران الماضيين بشأن وثيقة الأسرى والتلويح بعرضها على استفتاء شعبي، مع التأكيد على طهارة الأسرى ومكانتهم.

ولكن حماس تمكنت من تجاوز الضغوط، أولا: من خلال تطوير وثيقة الأسرى للوصول إلى وثيقة الوفاق الوطني، التي تم اعتمادها من كافة الاتجاهات في أواخر يونيو/ حزيران الماضي.

وثانيا: من خلال العملية العسكرية التي حركت قضية الأسرى بشكل عملي، وأعطت آمالا بالإفراج عن المئات منهم، دون الاكتفاء بمجرد التغزل بالأسرى والتحدث عن معاناتهم.

يحسب لحماس كذلك تمكنها من إخفاء الجندي الأسير بضعة أشهر لأول مرة في تاريخ المقاومة في الإطار الجغرافي لفلسطين، وفشل كافة المحاولات العسكرية والأمنية للوصول إليه.

لقد دفع الفلسطينيون ثمن هذه الحملات فاستشهد حتى ديسمبر/ كانون الأول 2006 أكثر من 400 شهيد، فضلا عن الجرحى وتدمير المنازل وحالة الحصار الاقتصادي الخانق؛ ولكن ظلت هناك حالة شبه إجماع فلسطينية على ألا يفرج عن الأسير دونما عملية تبادل أسرى.

وبالطبع لم يفُت الفلسطينيين أن يشعروا بالازدراء والقرف من مظاهر نفاق المجتمع الدولي، وانشغاله بإطلاق الجندي الإسرائيلي بما في ذلك المواقف الأميركية والأوروبية واتصالات كوفي أنان وحتى بعض الزعامات العربية.

ولم يكن ذلك سوى مؤشر جديد يضاف إلى مئات المؤشرات التي تؤكد جاهزية العالم للرقص على الأنغام الإسرائيلية، أما العشرة آلاف معتقل في سجون الاحتلال فلا بواكي لهم.

إذا ما استمرت حماس في اعتقال جلعاد شاليط فإن “إسرائيل” سترضخ في النهاية لعملية تبادل الأسرى. وطوال الفترة الماضية حاول الكيان الإسرائيلي الاستفادة من عنصر الزمن في البحث عن الأسير، وفي الضغط على حماس، وفي القيام بحملات القتل والتدمير، وفرض الحصار والسعي لإسقاط حكومة حماس.

لكنه في الوقت نفسه ترك المجال للتفاوض بشأن عملية تبادل الأسرى، مراهنا على أن إطالة أمد التفاوض ستخفف من الشروط الفلسطينية، وخصوصا بشأن أعداد الأسرى وشخصياتهم ونوعية الأحكام التي يواجهونها.

لن نستبق الزمن للحديث عن الصفقة ولكن ما يرشح من معلومات يظهر استعدادا إسرائيليا لعملية تبادل الأسرى، والحديث يدور الآن عن إطلاق نحو خمسمائة إلى ألف سجين عدا النساء والأطفال، على أن يتم ذلك على مرحلتين ومن خلال الوسيط المصري.

“إسرائيل” تصر على عدم الالتزام بمبدأ التزامن في إطلاق السراح، وفي اختيار من تشاء من الأسرى لإطلاقهم وهو ما ترفضه حماس التي تطالب بالإفراج عن عدد كبير من أصحاب المحكوميات الطويلة، وإطلاق عدد من الرموز السياسية، وعلى رأسهم القائد الفتحاوي مروان البرغوثي وزعيم الجبهة الشعبية أحمد سعدات.

الخبرة السابقة في عمليات تبادل الأسرى تشير إلى سلوك إسرائيلي مزمن في المماطلة والمناورة وعدم الالتزام بالوعود الشفوية، وفي تفسير الالتزامات المكتوبة بالشكل المتعسف الذي يروق لها. ولذلك فليس أمام حماس سوى الإصرار على مبدأ التزامن، وعلى اتفاقات مكتوبة بضمانات حقيقية.

وليس صحيحا أن الإسرائيليين لا يطلقون سراح من حكم عليه بالمؤبد أو من يقولون إن “يديه ملطخة بالدم اليهودي”، إذ سبق لهم أن أطلقوا الكثيرين من أصحاب هذه المحكوميات في صفقات سابقة.

غير أن الأمر سيظل مرتبطا بالاعتبارات السياسية، والموازنات المحلية، وضرورات الأمن، ونوعية الضغوط التي يتعرض لها الإسرائيليون وشدتها.

وعلى الأرجح سيطلق الإسرائيليون سراح أعداد من الأسرى، وإن كانوا سيحاولون جهدهم أن يخرج الإفراج بطريقة تخفف إلى الحد الأدنى إمكانية استفادة حماس سياسيا وشعبيا من العملية.

والإسرائيليون مطمئنون للأسف إلى أنه في ظل وجود ثلاثة ملايين و800 ألف فلسطيني في سجنهم الكبير (في الضفة والقطاع)، فإنهم سيستطيعون الاستمرار في لعبتهم القذرة في تعويض مخزونهم من الأسرى والمعتقلين وزيادته.

وفي المقابل فإن الفلسطينيين استطاعوا من خلال عملية أسر الجندي أن يفرضوا ولو بعض شروطهم في ظل ظروف تكاد تكون مستحيلة محليا وعربيا ودوليا.

.