مدة القراءة: 6 دقائق

منذ نحو أربعين عاماً تقود حركة فتح ساحة العمل الوطني الفلسطيني، وقبل نحو عشرين عاماً أخذت حركة حماس تقاسمها النفوذ على هذه الساحة. وإذا ما علمنا أن الحركتين كلتاهما قد خرجتا من رحم الإخوان المسلمين (مع إدراكنا أن فتح اتجهت منذ مرحلة مبكرة اتجاهاً علمانياً)، فلعلنا ندرك إلى أي مدى كان تأثير الشيخ حسن البنا وفكره في العمل للقضية الفلسطينية.

لقد حقق البنا ومدرسته ثلاث نجاحات متميزة قلما تتحقق لشخص من الأشخاص أو حركة من الحركات:

الأول: نجح البنا في تقديم خطاب إسلامي يتسم إلى جانب كونه شاملاً بأنه بسيط سهل الفهم؛ وهو ما جعل الخطاب الإسلامي ينطلق من أَسْر الفئات المثقفة والنخبوية (التي ميزت خطابات الأفغاني وعبده ورشيد رضا…) إلى الفئات الشعبية وإلى جميع طبقات المجتمع.

الثاني: نجح البنا وحركته في تجاوز الخصوصية الإقليمية التي كانت عادة ما تطبع حركات التجديد والإحياء الإسلامية التي سبقته أو عاصرته، كالوهابية في الجزيرة العربية، والمهدية في السودان، والسنوسية في المغرب العربي، والنورسية في تركيا، والجماعة الإسلامية في القارة الهندية. ونجح البنا في بناء حركة يتوزع أفرادها على معظم بلدان العالم الإسلامي وتجمعات المسلمين في المهجر، وتقود العمل الإسلامي في عدد من البلدان.

الثالث: نجح البنا في تقديم حركة قابلة للحياة والتجدد والاستمرار عبر الأجيال، ولا تزال هذه الحركة تتمتع بالكثير من القوة والحيوية والانتشار (بعد أكثر من 57 عاماً على استشهاده)، على الرغم من كثرة الصعاب التي واجهتها ولا تزال تواجهها.

وتمر هذه الأيام الذكرى المئوية لولادة حسن البنا (ولد في أكتوبر/تشرين الأول 1906)، ورغم الجدل الكبير في الساحة السياسية والثقافية حول الشيخ البنا ومدرسته، فإن هذا المقال يحاول التركيز على الرؤية الفكرية للشيخ البنا المتعلقة بفلسطين.

أمة واحدة.. وطن واحد.. همٌ واحد

عندما أنشأ البنا جماعة الإخوان المسلمين في مارس/آذار 1928، كان الاهتمام المصري الرسمي وحتى الشعبي بقضية فلسطين ضئيلاً. وكان من نماذج السلوك الرسمي السلبي المصري أن رئيس وزراء مصر محمد محمود عندما سُئل عن سياسته حول قضية فلسطين أجاب في خبر نشرته جريدة الأهرام في 20 حزيران/يونيو 1938 أنه رئيس وزراء مصر وليس رئيس وزراء فلسطين.

وكان ذلك بينما كانت الثورة الكبرى مشتعلة على أشدها في فلسطين، وفي الوقت نفسه كان القنصل المصري في القدس لا يزال حتى 1938 يدعو الزعماء الصهاينة إلى حفلات الاستقبال في الذكرى السنوية لميلاد الملك وفي ذكرى اعتلائه العرش!!.

عدَ الشيخ البنا الوطن الإسلامي وطناً واحداً وأمة الإسلام أمة واحدة، فكان يقول إن كل أرض يقال فيها لا إله إلا الله محمد رسول الله، هي جزء من وطننا، له حرمته وقداسته، والإخلاص له والجهاد في سبيل خيره.

وقد رأى الشيخ البنا أن الوطنية والعروبة والإسلام هي دوائر متكاملة غير متعارضة، وأن الشخص يسَعُهُ أن يعمل بكل إخلاص لمصلحة وطنه، ويعمل في الوقت نفسه لعالمه العربي ولعالمه الإسلامي.

وحسب البنا( كما جاء في رسائله) فإن المسلمين هم أشد الناس إخلاصاً لأوطانهم، ولكن الفارق بين المسلمين وبين غيرهم من دعاة الوطنية المجردة أن أساس وطنية المسلمين العقيدة الإسلامية, كما أنهم لا يقفون بهذا الشعور عند حدودها، بل يُشركون معها فيه كل أرض إسلامية وكل وطنٍ إسلامي.. وحسبك من وطنية الإخوان المسلمين أنهم يعتقدون عقيدة جازمة لازمة أن التفريط في أي شبر أرضٍ يقطنه مسلم جريمة لا تُغتفر حتى يعيدوه أو يهلكوا دون إعادته، ولا نجاة لهم من الله إلا بهذا.

فلسطين.. المكانة والمسؤولية

وعلى ذلك فإن اهتمام البنا بقضية فلسطين جاء في السياق الطبيعي لفهمه الإسلامي وفي صميم برنامج عمله، بل صار محكًّا لاختبار مصداقية وجدية فكره ودعوته.

ولذلك يؤكد البنا أن فلسطين وطن لكل مسلم باعتبارها من أرض الإسلام، وباعتبارها مهد الأنبياء، وباعتبارها مقر المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله. ويرى البنا أن قضية فلسطين هي قضية كل مسلم.

ويربط طرح الإخوان بشكل مُحكم بين الإسلام وفلسطين، وهو طرح لا يقرر فقط المكانة الدينية لفلسطين أو الترابط العاطفي والتاريخي معها، ولكنه يعد التخاذل عن حمايتها ونصرتها تخاذلاً عن نصرة الإسلام نفسه، وذلك حسب ما جاء في جريدة الإخوان المسلمون 6/6/1936: وما الشعب الفلسطيني إلا أخٌ لنا، فمن قعد عن فلسطين فقد قعد عن الله ورسوله، وظاهر على الإسلام، ومن أعانها وبذل لها وأمدها فقد انتصر لله ورسوله ودافع عن الإسلام.

ويتكرر هذا الربط المُحكم في موضع آخر عندما ينص الإخوان في مقال نشرته مجلة النذير في 25/3/1937 على أن القول: مالي ولفلسطين في هذه الظروف معناه مالي وللإسلام. ففلسطين ليست قضية وطن جغرافي بعينه، وإنما هي قضية الإسلام الذي تدينون به، فما فلسطين إلا قطعة مصابة من الجسد الإسلامي العام، ولبنة مزعزعة من لبنات بنيانه، فكل قطعة لا تتألم لألم فلسطين ليست من هذا الجسد، وكل لبنة لا تختل لاختلال فلسطين ليست من هذا البنيان.

مشروع النهضة ومشروع التحرير

يرى البنا وجوب الجهاد لتحرير فلسطين ونصرة أهلها، فقد ذكر في رسالة بعثها إلى السفير البريطاني في القاهرة ونشرتها النذير في 26/12/1938 أن الإخوان سيبذلون أرواحهم وأموالهم في سبيل بقاء كل شبر من فلسطين إسلامياً عربياً حتى يرث الله الأرض ومن عليها. وقال في رسالة بعثها في مايو/أيار 1939 إلى رئيس وزراء مصر محمد محمود إن الإنجليز واليهود لن يفهموا إلا لغة واحدة، وهي لغة الثورة والقوة والدم.

وقد عبَر فكر البنا عن حالة نضج مبكرة ومتقدمة في جدلية العلاقة بين مشروع النهضة الإسلامية وبين تحرير فلسطين، حيث رأى أن حل قضية فلسطين سيكون بتلازم خطى الوحدة والجهاد.

فالمشروعان بالنسبة له يمكن أن يسيرا جنباً إلى جنبٍ بحيث يسند أحدهما الآخر ويكمله، ولا ينبغي تعطيل مشروع في انتظار إنجاز الآخر.

إذ إن تحرير فلسطين يستدعي العمل على نهضة الأمة لتستكمل عناصر قوتها ووحدتها وبالتالي تكون مؤهلة للاستجابة لتحدي التحرير وهزيمة المشروع الصهيوني.

وكذلك فإن الجهاد في فلسطين ومقاومة العدو تمثل في حدّ ذاتها عنصراً هاماً في عملية استنهاض الأمة، وبث معاني الجهاد وكشف أعداء الأمة، وتوحيدها تجاه التحديات الكبرى. وهو الخط الفكري الذي تطرحه حماس.

ولذلك نجد في أدبيات الإخوان التي يعود بعضها إلى سنة 1936 أن العمل لقضية فلسطين لن تقف بركته عند تحقيق الوحدة العربية، بل إنها ستحقق أيضاً الوحدة الإسلامية.

ورأى البنا في مقال نشره في النذير في 27/7/1938 أن قضية فلسطين وثورتها كان لهما أثر كبير طيب على بلدان المسلمين، فعندما قامت الثورة الكبرى في فلسطين سنة 1936 أعادت الجهاد إلى الواقع مرة أخرى، وقام الفلسطينيون يحسنون من جديد صناعة الموت.

وسرى هذا التيار من نفس الفئة المجاهدة القليلة في جوار الحرم المقدس إلى شباب الإسلام والعرب على حد تعبيره. وخاطب البنا أهل فلسطين أيها الفلسطينيون لو لم يكن من نتائج ثورتكم إلا أن كشفتم غشاوات الذلة وحجب الاستسلام عن النفوس الإسلامية، وأرشدتم شعوب الإسلام إلى ما في صناعة الموت من لذة وجمال وروعة وربح لكنتم الفائزين.

ويربط البنا بين عدم القدرة على تحرير فلسطين وبين ضعف المسلمين وتخلفهم عن دينهم، وبمعنى آخر فإن عملية التحرير مرتبطة بعملية استنهاض الأمة فيذكر في النذير في يوليو/تموز 1938 أن قضية فلسطين لم تحل، ليس لأن المسلمين لا يقدرون، بل لأنهم لا يريدون، وهم لا يريدون لأنهم لا يشعرون، وذلك لأنهم مسلمون أدعياء.

وفي سعيه لتشجيع التواصل بين المسلمين والدفع باتجاه مشروع الوحدة، اتصل البنا بعدد من القيادات العربية والإسلامية للحصول على دعمهم لعقد مؤتمر لنصرة فلسطين، وكتب البنا في 4 أكتوبر/تشرين الأول 1937 في النذير: أيها المسلمون لا تضيعوا دقيقة دون التحضير للتحرير، ولتكونوا قادرين بعد ذلك على اختيار ميدان المعركة بدل أن تُساقوا كالخراف… أيها المسلمون أنتم تحتاجون القوة وتحتاجون الوحدة التي هي أول خطوة لتحقيق القوة. وهي رسالة تعبر عن فهم البنا للجمع بين مشروعي الوحدة والتحرير.

الموقف من اليهود

على الرغم من أن الكثير من أدبيات الإسلاميين لم تكن تفرق (إلى سنوات قريبة) بشكل واضح بين معاداة أو محاربة اليهود لمجرد كونهم يهوداً، وبين معاداة ومقاتلة اليهود المعتدين في فلسطين، فإن الشيخ البنا منذ مرحلة مبكرة جداً قدم تصوراً واضحاً يفرق بين اليهود باعتبارهم أهل كتاب تجرى عليهم الأحكام العامة، ولهم حقوقهم المعروفة في الفقه الإسلامي، وبين اليهود الصهاينة المعتدين الذين تجب محاربتهم لقيامهم باغتصاب أرض المسلمين وحقوقهم. وهو ما أكده البنا أمام لجنة التحقيق البريطانية الأميركية في 5 مارس/ آذار 1946.

ورفض البنا الظلم الذي تعرض له اليهود في أوروبا، لكنه رفض أن يتحقق إنصافهم عبر ظلم أهل فلسطين والعرب، وذكر البنا لا شك أننا نتألم لمحنة اليهود تألماً شديداً ولكن ليس معنى هذا أن يُنصفوا بظلم العرب وأن ترفع عنهم بهلاك غيرهم والعدوان عليه.

الموقف من الاحتلال البريطاني لفلسطين

رفض الشيخ البنا وعد بلفور ورأى أن بريطانيا نكثت عهودها للعرب بالحرية والاستقلال، وعبر عن سخطه على السياسات القمعية البريطانية ومصادرة الحريات وإرهاب الآمنين ونفي الزعماء، وأعلن تضامنه مع الحاج أمين الحسيني زعيم فلسطين، كما حذر الوفود الإسلامية إلى مؤتمر لندن (فبراير/مارس 1939) من المكر والخداع البريطاني.

فقد ذكر البنا في مقال له بالنذير في 6 ديسمبر/كانون الأول 1938 أن المشكلة الحقيقية هي أساساً بين العرب مالكي الأرض في فلسطين وبين البريطانيين الذين سيطروا على البلد، ووضعوه تحت هذه الظروف.

ويعكس هذا الفهم النتيجة نفسها التي وصل إليها العرب في فلسطين إثر ثورة البُراق (أغسطس/آب 1929) من أن بريطانيا هي أصل الداء وسبب كل بلاء حيث أخذت معارضتهم وثوراتهم تتركز ضد البريطانيين.

وهكذا تبنى الشيخ البنا طرح الحركة الوطنية الفلسطينية فيما يتعلق بمطالب الشعب الفلسطيني من بريطانيا وبحل قضية فلسطين. فقد طالب بريطانيا بوقف الهجرة اليهودية وقفاً تاماً، وبإطلاق السجناء، وإعادة المبعدين، وتعويض المتضررين، وباعتراف بريطانيا باستقلال فلسطين استقلالاً تاماً عربية مسلمة، ويمكن أن يكون ذلك بناءً على اتفاق يضمن حقوق العرب، ويعامل فيه اليهود معاملة الأقليات.

في الجانب العملي

ورغم أن هذا المقال لا يتسع للحديث عن الجهود العملية للبنا تجاه فلسطين، والتي كتبت فيها دراسات عديدة فإنه من المفيد الإشارة إلى أن الإخوان كانوا من أوائل وأبرز الجمعيات التي عَرّفت بفلسطين وحرّكت الجماهير للتفاعل معها، وخصوصاً في مصر منذ ثلاثينيات القرن العشرين.

وكانت أول محاولة لنشر دعوتهم خارج مصر قد بدأت بفلسطين سنة 1935. وعادة ما يذكر الإخوان أن أهم أسباب إنشاء البنا للنظام السري الخاص داخل جماعة الإخوان سنة 1940 تقريباً، هو مشاركة أعضائه في الجهاد لتحرير فلسطين من الانتداب البريطاني، وإفشال المخطط اليهودي في بناء الوطن القومي على أرضها، وقد كان أعضاء هذا النظام يُختارون من خلاصة الإخوان، ويخضعون لتدريبات بدنية شاقة فضلا عن التدريب على السلاح.

وفي أكتوبر/تشرين الأول 1947 أعلن البنا التبرع بدماء عشرة آلاف من الإخوان كدفعة أولى لمعركة فلسطين التي أخذت بوادرها في الظهور، وأرسل بذلك إلى جامعة الدول العربية. لكن الحكومة المصرية ضيقت الخناق عليهم، ومنعتهم من السفر إلا بشكل محدود جداً. ومع ذلك فإن المئات الذين استطاعوا المشاركة في المعارك، قاموا بأدوار مشهودة.

ولم يكن حسن البنا سعيداً بأداء الجيوش العربية وهزائمها وتراجعاتها، ولذلك قرر أن يعد قوة ضخمة للدفاع عن القدس، التي كانت تتعرض لخطر كبير، وقال إنه سيعلن الجهاد الديني والتعبئة الشعبية، بعد أن فشلت الحكومات العربية، وكان يردد هذه العبارة ما فيش فايدة، الناس دول مش عاوزين يحاربوا!

غير أنه تم حل جماعة الإخوان المسلمين في ديسمبر/ كانون الأول 1948 قبل أن تنتهي المعارك، ومن الملفت للنظر أنه عندما شعر الإخوان المقاتلون في فلسطين بالقلق لحل جماعتهم وما يحدث في مصر، أرسل إليهم البنا يطلب منهم الاستمرار في جهادهم، مؤكداً على أن معركتهم هي في فلسطين.

وكان مصير هؤلاء على أي حال هو الاعتقال والسجون حتى قبل عودتهم إلى مصر. وقامت المخابرات المصرية باغتيال حسن البنا نفسه في 12 فبراير 1949، قبيل توقيعها اتفاقية الهدنة مع الكيان الصهيوني.

لا شك أن البنا يستحق في ذكراه المئوية وقفة تقدير، إذ من الظاهر أنه قد دفع فاتورة حبه لفلسطين والتزامه الصادق بنصرتها وتحريرها، وسوف يكتب التاريخ أنه كان من رجالات العصر الذين أعطوا لفلسطين الكثير ومن أبرز من أسهموا في توسيع دائرة الاهتمام بها، وجعلوها محط أنظار المسلمين.

.