إعداد: أ. عاطف الجولاني.[*]
(خاص بمركز الزيتونة).
ملخص تنفيذي:
تواجه الإدارة السورية الجديدة ضغوطاً ومحفّزات سياسية واقتصادية وأمنية للتقارب مع الكيان الصهيوني. وفيما تواصل القوات الإسرائيلية عملياتها العسكرية في الأراضي السورية، تنفتح العديد من الأطراف الغربية والعربية ديبلوماسياً على القيادة السورية، كما تمّ رفع العقوبات الأمريكية والأوروبية عن سورية، ورفعت الخارجية الأمريكية “هيئة تحرير الشام” من قوائم المنظمات الإرهابية، ووقعت السعودية والإمارات اتفاقيات اقتصادية بنحو 7 مليارات دولار مع الحكومة السورية. وقابلت الإدارة السورية الضغوط والمحفّزات بعقد لقاءات أمنية مع وفود إسرائيلية، وبررت ذلك بالرغبة بتجنّب التصعيد والحيلولة دون الانزلاق لمواجهة عسكرية.
للاطلاع على ورقة السياسات بصيغة بي دي أف، اضغط على الرابط التالي: >>ورقة سياسات: الخيارات السورية في إدارة العلاقة مع الكيان الإسرائيلي … أ. عاطف الجولاني ![]() |
وتراوح الخيارات السورية المستقبلية في إدارة العلاقة مع الاحتلال الإسرائيلي بين أربعة خيارات؛ قلب الطاولة ورفض التجاوب مع الضغوط، أو التكيف الإيجابي والممانعة المحسوبة وتفعيل عناصر القوة دون الدخول في التطبيع، أو الانفتاح المتدرّج على العلاقة مع الجانب الإسرائيلي، أو التطبيع والانفتاح الواسع والالتحاق بمسار الاتفاقيات الإبراهيمية.
وتُرجّح استجابات الإدارة السورية حتى اللحظة أن تراوح بين خيار التكيّف الإيجابي والممانعة المحسوبة وتفعيل عناصر القوة للخروج من عنق الزجاجة، وخيار الانفتاح المتدرّج على الجانب الإسرائيلي بتأثير الضغوط والمحفّزات. غير أنّ هذه الورقة تنبه في توصياتها إلى خطورة التطبيع، وثماره السلبية وتداعياته العسكرية على النظام السوري الجديد، والمستقبل السوري، وتؤكد على ضرورة الاستناد إلى القاعدة الشعبية الواسعة والقوية الرافضة للتطبيع والمؤيدة لقضية فلسطين، في الإدارة الحكيمة للموضوع مع الإبقاء على التطبيع كخط أحمر.
مقدمة:
تواجه الإدارة السورية الجديدة ضغوطاً خارجية متواصلة للتأثير في تموضعها السياسي وإدارة منظومة علاقاتها الإقليمية والدولية، وفي التعامل مع ملفات داخلية ضاغطة، في المقدمة منها، الأقليات الدينية والإثنية والطائفية والمرأة ومناهج التعليم. حيث رهنت الأطراف الخارجية موقفها من النظام السياسي الجديد ومدى انفتاحها عليه سياسياً واقتصادياً بخياراته وتوجهاته في التعامل مع تلك الملفات، وبمدى استجابته لشروطها ومطالبها. وبدا واضحاً أن موقف القيادة السورية الجديدة من إدارة العلاقة مع الكيان الصهيوني واستعدادها للانفتاح عليه، يشكّل محور ارتكاز مهم في حسابات الإدارة الأمريكية والعديد من الأطراف الأوروبية، لتحديد خياراتها المستقبلية في التعامل مع الواقع الجديد في سورية.
أولاً: ضغوط وحوافز سياسية واقتصادية:
سعت الأطراف الدولية عقب حصول التغيير في سورية لوضع القيادة الجديدة أمام خيارين صعبين؛ فإما أن تختار التكيّف مع المتطلبات الإسرائيلية والأمريكية والأوروبية وتُقدّم التنازلات والاستحقاقات المطلوبة، وتحصل لقاء ذلك على مزيد من الدعم والانفتاح الغربي والعربي سياسياً واقتصادياً، وبما يعزّز شرعيتها الإقليمية والدولية ويحول دون إشعال جبهات سورية داخلية، وإما أن تواجه عواقب خطيرة لرفض التجاوب مع المطالب والضغوط الخارجية، على صعيد استقرارها وشرعيتها الإقليمية والدولية، وفرص تعافي الاقتصاد السوري من أوضاعه الصعبة والمعقدة.
وفي سياق ممارسة سياسة العصا والجزرة، واصل الكيان الصهيوني عملياته العسكرية على الأراضي السورية، وسعى جاهداً لإضعاف القيادة الجديدة وحرمانها من بسط سيطرتها السياسية والأمنية على أراضي الدولة، ونصّب نفسه حامياً ومدافعاً عن حقوق الأقليات السورية وخصوصاً الطائفة الدرزية. وبالتوازي مع ذلك تمّت العديد من الخطوات والإجراءات التحفيزية، للتأثير في سلوك القيادة السورية الجديدة، واستيعابها ضمن معادلة إقليمية مقبولة دولياً.
فعلى صعيد الانفتاح السياسي والديبلوماسي زار عدد كبير من الوفود الرسمية سورية بعد سقوط نظام بشار الأسد، وشمل ذلك العديد من الدول العربية والغربية، كما تمّ استقبال الرئيس السوري أحمد الشرع في فرنسا، وأذربيجان، وتركيا والسعودية، والإمارات، ومصر، وقطر، والأردن، والبحرين، والكويت، بالإضافة إلى الكثير من الزيارات التي قام بها وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني ووزراء آخرون للعديد من دول العالم.
وإلى جانب الانفتاح الديبلوماسي على الإدارة السورية الجديدة، يمكن الوقوف على مجموعة من الخطوات التحفيزية الأخرى، ومن بينها:
1. في 14/5/2025 أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب Donald Trump من السعودية تخفيف العقوبات المفروضة على سورية، وقال إن القرار يهدف إلى منح الشعب السوري فرصة جديدة، وأشار إلى أن النقاش حول هذا الملف تمّ بشكل مباشر مع القيادة السعودية (وكذلك مع أردوغان) التي قال إنها لعبت دوراً محورياً في الوصول إلى هذه الخطوة. وتنفيذاً للقرار أعلنت الولايات المتحدة في 23/5/2025 رسمياً تخفيف العقوبات الاقتصادية المفروضة على سورية. وفي 30/6/2025، أعلن البيت الأبيض أن ترامب وقّع أمراً تنفيذياً لإنهاء العقوبات على سورية، وهو ما يعني أن عدداً من العقوبات تم رفعه فوراً، غير أن عقوبات أخرى كانت ما تزال بحاجة لبعض الإجراءات لإتمام رفعها، كتلك المتعلقة بصلاحيات الكونجرس في إلغاء “قانون قيصر”.
2. وفي 28/5/2025 التحق الاتحاد الأوروبي بالموقف الأمريكي، ورفع العقوبات الاقتصادية عن سورية، لدعم عملية التحوّل وتعافي البلاد، بعد سقوط نظام الرئيس السابق بشار الأسد.
3. في 8/7/2025 أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية عن دخول قرار رفع هيئة تحرير الشام من قوائم المنظمات الإرهابية الأجنبية (FTO) حيّز التنفيذ. ورحبت الحكومة السورية بالقرار، وعدّته خطوة إيجابية لتصحيح مسارٍ كان يُعيق ما وصفته بـ”الانخراط البناء”، وأعربت عن أملها في إزالة القيود المتبقية التي ما زالت تؤثر على المؤسسات والمسؤولين السوريين، في إشارةٍ غير مباشرةٍ إلى تصنيف مجلس الأمن الدولي Security Council لهيئة تحرير الشام كمنظمة إرهابية في قراره رقم 2254. وبالفعل وزعت واشنطن أوائل شهر آب/ أغسطس 2025 مشروع قرار على بريطانيا وفرنسا يدعو مجلس الأمن لشطب اسم الرئيس السوري أحمد الشرع ووزير الداخلية أنس خطاب من قائمة العقوبات الأممية الخاصة بمكافحة الإرهاب، وإلى تخفيف العقوبات الاقتصادية المفروضة على سورية.
4. في 13/7/2025 وقّعت الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية في سورية وشركة موانئ دبي العالمية اتفاقية استراتيجية بقيمة 800 مليون دولار، لاستثمار وتشغيل وتوسعة وإدارة ميناء طرطوس، وتطوير بنيته التشغيلية واللوجيستية.
5. وفي 24/7/2025 انعقد المنتدى الاستثماري السوري السعودي في دمشق، وتمّ توقيع 47 اتفاقية اقتصادية بقيمة 6.4 مليارات دولار، تشمل قطاعات البنية التحتية والاتصالات والأمن السيبراني والزراعة والخدمات المالية.
ثانياً: استجابات سورية حذرة:
في التعامل مع الضغوط والمحفزات الدولية والإقليمية، يمكن الوقوف على مجموعة من الاستجابات من طرف الإدارة السورية الجديدة بخصوص إدارة العلاقة مع الجانب الإسرائيلي والتواصل المباشر وغير المباشر معه، ومن أبرزها:
1. في 7/5/2025 نقلت وكالة رويترز Reuters للأنباء عن ثلاثة مصادر مطّلعة، أن الإمارات أنشأت قناة اتصال خلفية للمحادثات السورية الإسرائيلية، ونقلت عن مصادر مقربة من الملف أن المحادثات غير المباشرة ركّزت على القضايا الأمنية والاستخبارية، وأشارت إلى أن جهود فتح قناة الاتصال بدأت بعد أيام من زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع للإمارات في 13/4/2025.
2. في 7/5/2025 أعلن الرئيس السوري أحمد الشرع خلال مؤتمر صحفي عقده في باريس مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون Emmanuel Macron، عن أن هناك مفاوضات غير مباشرة تجري مع الجانب الإسرائيلي عبر وسطاء من أجل تهدئة الأوضاع ومحاولة امتصاص التوتر، في إشارة إلى المحادثات السورية الإسرائيلية التي أجريت في أذربيجان، وشارك فيها رئيس هيئة العمليات في الجيش الإسرائيلي عوديد بسيوك Oded Basyuk وممثلون عن الحكومة السورية، وبحضور مسؤولين أتراك.
3. في 27/5/2025 كشفت وكالة رويترز للأنباء عن لقاءات مباشرة عُقدت بين مسؤولين سوريين وإسرائيليين خلال أسابيع سابقة، ونقلت عن خمسة مصادر قولها إن الطرفين على اتصال مباشر وأجريا ثلاثة لقاءات مباشرة على الأقلّ، واحداً منها في المنطقة الحدودية بهدف منع التصعيد واحتواء التوترات الأمنية. وأشارت إلى أن أحمد الدالاتي قائد الأمن بمحافظة السويداء ترأس الطرف السوري في اللقاءات مع الإسرائيليين، وأن اللقاءات كانت ذات طابع أمني.
4. في 24/7/2025 عُقد لقاء رفيع المستوى في باريس بين وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلية رون ديرمر Ron Dermer ووزير الخارجية السوري أسعد الشيباني برعاية توماس برّاك Barrack المبعوث الخاص للرئيس الأمريكي. ونقل موقع أكسيوس Axios الأمريكي عن مسؤولين إسرائيليين قولهم إنّ اللقاء استمرّ أربع ساعات وهدف إلى “التوصّل لتفاهمات أمنية بشأن جنوب سورية من أجل الحفاظ على وقف إطلاق النار”.
ويُلاحظ أن جميع اللقاءات التي عقدت بين الجانبيْن الإسرائيلي والسوري كانت ذات طابع أمني؛ لاحتواء التصعيد والتوتر والحيلولة دون انزلاق الأمور إلى مواجهة عسكرية مباشرة، حيث لم يُعلن حتى اللحظة عن عقد لقاءات ذات طابع سياسي أو اقتصادي، وهو ما تحاول الإدارة السورية تجنّبه وتدرك ما يترتّب عليه من حرج سياسي وشعبي.
غير أن الملاحظ أيضاً أن اللقاءات والتواصلات السورية الإسرائيلية انتقلت بالتدريج من التواصلات غير المباشرة عبر وسطاء إلى اللقاءات المباشرة بين وفود تمثل الطرفين، كما انتقلت من حالة السريّة إلى العلنية خلال وقت قصير نسبياً، في مؤشر إلى تراجع مستوى التردد والحذر السوري من إشهار تلك اللقاءات ذات الطابع الأمني، والتي تتزامن مع حالات تصعيد متكررة بين الطرفين.
ثالثاً: ضغوط دولية وخيارات سورية غير مغلقة:
إزاء مساعي الولايات المتحدة وبعض الأطراف الدولية وضع القيادة السورية أمام خيار ومسار إجباري يضيّق عليها هوامش المناورة ومساحات التحرّك، عبر دفعها للتقارب وتطبيع العلاقات مع الجانب الإسرائيلي، تبرز مجموعة خيارات أمام صنّاع القرار السوريين في إدارة ملف العلاقة مع الاحتلال الإسرائيلي وفي مواجهة الضغوط والاشتراطات الدولية، ومن أهمها:
1. قلب الطاولة ورفض التجاوب مع الضغوط الدولية والتأثيرات الإقليمية، والتمسّك بالثوابت الوطنية وثوابت الأمة، والانسجام مع الموقف السوري التقليدي الرافض للتطبيع ولتعزيز العلاقات مع الاحتلال.
2. التكيّف الإيجابي مع معطيات المرحلة، والممانعة المحسوبة، وتفعيل عناصر القوة الذاتية بذكاء وكفاءة واقتدار، والتعاطي بحذر شديد ومواءمات دقيقة توازن بين الاعتبارات الإقليمية والدولية وحاجة سورية لتجاوز التحديات السياسية والاقتصادية الضاغطة التي لا يمكن إنكارها أو تجاهلها، وبين المحافظة في الوقت ذاته على ثوابت الموقف السوري وثوابت الأمة.
3. التجاوب مع الضغوط الإسرائيلية والغربية، والانفتاح المتدرّج على العلاقة مع الجانب الإسرائيلي، وتقديم بعض الاستحقاقات التي تفرضها ضغوط المرحلة، وتبرير ذلك بالرغبة في تثبيت الواقع السياسي الجديد ومواجهة التحديات وتجاوز عنق الزجاجة.
4. التطبيع والانفتاح الواسع على العلاقة مع الجانب الإسرائيلي والالتحاق بمسار الاتفاقيات الإبراهيمية Abraham Accords، والتزام سقف الموقف الرسمي العربي وتبنّي خطابه ومبرراته في تجاوز القضية الفلسطينية.
رابعاً: العوامل المؤثرة في الخيارات السورية:
تبرز مجموعة من العوامل التي قد تشجّع الإدارة السورية الجديدة على الانفتاح بصورة أكبر على العلاقة مع الجانب الإسرائيلي خلال الفترة القادمة، ومن أهمها:
1. حاجة النظام السياسي لتحقيق المزيد من الشرعية السياسية والاعتراف الإقليمي والدولي ولتجنّب العزلة والحصار.
2. الرغبة السورية بتحقيق الاستقرار وتجاوز التحديات الأمنية الداخلية الناجمة عن التباينات الدينية والطائفية والعرقية، في ظلّ امتلاك العديد من الطوائف والإثنيات تشكيلات ومليشيات مسلّحة، يخضع العديد منها لتأثير أجندات خارجية معادية للإدارة السورية الجديدة.
3. الرغبة في تجاوز التهديدات الإسرائيلية، والمتمثلة بالتدخّل العسكري المباشر، واحتلال مساحات جديدة واسعة داخل الأراضي السورية، ومواصلة الاعتداءات والضربات العسكرية، ودعم الأقليات السورية وميليشياتها الطائفية، كما حصل في السويداء في 16/7/2025، حيث تدخلت القوات الإسرائيلية لدعم المليشيات الدرزية وقصفت مقرّ قيادة الأركان السورية.
4. تأثير العامل الاقتصادي في ظلّ التحديات الكبيرة التي تواجه الاقتصاد السوري، والرغبة برفع العقوبات وضمان تدفّق المعونات والمساعدات.
5. تأثير الموقف التركي المشجّع للإدارة السورية على المرونة، والانفتاح المتدرّج على العلاقة مع الجانب الإسرائيلي، من أجل تحقيق الاستقرار الداخلي وتعزيز شرعية النظام السياسي.
6. تأثير بعض الدول العربية المنخرطة في مسار التطبيع والاتفاقيات الإبراهيمية، والتي تشجع الإدارة السورية على أن تحذو حذوها في إدارة العلاقة مع الجانب الإسرائيلي، ويزيد تأثير هذه الدول في القرار السياسي نتيجة الحاجة لدعمها السياسي والمالي.
وفي المقابل تبرز مجموعة عوائق تكبح جماح الانفتاح والتطبيع مع الكيان الصهيوني والتقدّم خطوات بعيدة في العلاقة معه، ومن أهمها:
1. إرث التوجهات الفكرية والسياسية للرئيس السوري ولفصيله هيئة تحرير الشام، بخلفيتها الإسلامية المحافظة الرافضة للعلاقة مع الاحتلال الإسرائيلي.
2. الموقف الشعبي السوري الرافض للتطبيع مع الاحتلال والداعم بقوة للشعب الفلسطيني.
3. إدراك الإدارة السورية الجديدة لحقيقة الموقف الإسرائيلي المعادي لها، وتصنيفه لها كإدارة ذات توجهات إسلامية متشددة، تحمل مواقف معادية للاحتلال، وتناور لتقديم صورة مغايرة لاعتبارات مصلحية مؤقتة.
4. السلوك العدواني المتواصل لجيش الاحتلال في سورية ولبنان وفلسطين، وشهيته المتزايدة للتمدد والسيطرة واستخدام القوة العسكرية لتحقيق أهدافه وفرض هيمنته على المنطقة.
5. تجارب الدول العربية التي انخرطت في مسار التطبيع منذ فترة طويلة، دون أن تحصل على مكتسباته الموعودة التي جرى تسويقها ونشر الأوهام بخصوصها، حيث لم تستفد مصر والأردن من تطبيع العلاقات مع الاحتلال، بل لم تُفلح معاهدتا “كامب ديفيد Camp David” و”وادي عربة” في درء الخطر الإسرائيلي ولجم أطماعه التوسّعية واختراقاته الأمنية لكلا البلدين. ففي 23/7/2025 صوّت الكنيست Knesset الإسرائيلي بأغلبية كبيرة على اقتراح غير ملزم بضم الضفة الغربية إلى السيادة الإسرائيلية، وهو ما يرى فيه الأردن تهديداً مباشراً وتمهيداً لعملية تهجير سكان الضفة للأردن. وتكرّر الأمر في قطاع غزة، حيث أقرّ المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر للشؤون السياسية والأمنية (كابينت Cabinet) في 8/8/2025 خطة هدفت للسيطرة الكاملة على مدينة غزة في إطار برنامج لاستكمال الهيمنة على قطاع غزة ونزع أسلحة حماس وإنشاء إدارة مدنية بإشراف إسرائيلي؛ ويحمل القرار في طياته إيجاد بيئات تهجيرية طاردة في قطاع غزة، وهو ما ترى فيه مصر تهديداً مباشراً لأمنها القومي.
خامساً: الترجيح والتوصيات:
في ضوء المحفّزات والعوائق المؤثرة في توجهات القيادة السورية، واستجاباتها الأولية، وخطواتها الحذرة في الانفتاح على الجانب الإسرائيلي؛ يُرجّح أن يُراوح سلوكها خلال الفترة القادمة بين الخيار الثاني المتمثّل في “التكيّف الإيجابي مع معطيات المرحلة، والممانعة المحسوبة، وتفعيل عناصر القوة الذاتية” وبين الخيار الثالث المتمثّل في “التجاوب مع الضغوط الإسرائيلية والغربية، والانفتاح المتدرّج على العلاقات مع الجانب الإسرائيلي”.
فيما تتضاءل احتمالات الخيار الأول وهو “قلب الطاولة ورفض التجاوب مع الضغوط الإقليمية والدولية” في ضوء الاستجابات الراهنة التي صدرت حتى اللحظة عن الإدارة السورية. كما يُستبعد أن تذهب في مدى قصير إلى الخيار الرابع وهو “التطبيع والانفتاح الواسع على العلاقة مع الجانب الإسرائيلي والالتحاق بمسار الاتفاقيات الإبراهيمية”، والذي يشكّل حال حصوله انقلاباً على الموقف الوطني، ومصادمة لموقف الشارع السوري ولثوابت الأمة.
وعلى الرغم من الطابع الأمني للقاءات والتواصلات السورية الإسرائيلية وتجنّب الملفات السياسية والاقتصادية حتى اللحظة، فإن ذلك لا يقلّل من خطورة الخطوات التي تمّت، خصوصاً وأنها تُغري الأطراف الدولية والإقليمية بممارسة المزيد من الضغوط والتأثيرات لتطويع الموقف السوري ودفعه للتقدم خطوات إضافية في مسار الانفتاح السياسي والاقتصادي على الجانب الإسرائيلي. كما أن حصول تقدّم مهم في مسار تطبيع العلاقات السعودية الإسرائيلية خلال الفترة القادمة، قد يكون له تأثير قوي على توجهات الإدارة السورية.
وإزاء ما تقدّم، يغدو مهماً التأكيد على ما يلي، تحقيقاً للمصالح الوطنية العليا للدولة السورية، وحرصاً على مكانة سورية ودورها المهم والمتقدّم تجاه قضايا الأمة:
1. إذا كان الذهاب نحو الخيار الأول، وهو قلب الطاولة ورفض التعاطي مع الضغوط الإقليمية والدولية، متعذراً في حسابات الإدارة السورية في ظلّ المعطيات الراهنة والأثمان المتوقّعة، فإن الفرصة متاحة للتمسّك بالخيار الثاني عبر التكيّف الإيجابي، والممانعة المحسوبة، وتفعيل عناصر القوة، دون الدخول في التطبيع، وهو خيار يحتاج إرادة وقراراً جريئاً بالصمود في مواجهة الضغوط والإغراءات. وثمة قاعدة شعبية سورية قوية وواسعة يمكن الاستناد إليها في التعامل مع التطبيع كخط أحمر.
فمن المهم أن تستحضر الإدارة السورية خطورة تغليب المصالح والمكتسبات الآنية والتكتيكية على حساب الأولويات والمصالح الاستراتيجية التي تؤثر في مستقبل الدولة السورية. ومن المهم كذلك إدراك أن التجاوب مع الضغوط الدولية والتأثيرات الإقليمية لن يؤدي إلى وقفها وانتهائها، بل يؤدي إلى تصاعد عمليات الضغط والابتزاز. ثم إن الاستجابة للمطالب الأمريكية والغربية فيما يتعلق بالتطبيع، قد لا يخدم النظام الحالي، كثيراً، لأن الإسرائيليين والأمريكان وعدد من القوى الغربية ينظرون للشرع ورفاقه باعتبارهم مرحلة سيتم تجاوزها لاحقاً، غير أنهم يريدون أن يعلقوا في رقبتها مسؤولية التطبيع واستحقاقاته باعتباره “محرقة شعبية”.
2. من الضروري والملحّ أن تدرك الإدارة السورية والشعب السوري أنهما يملكان عناصر قوة مهمة يُمكن تفعيلها لتعزيز صلابة الموقف السوري، وأنهما ليسا أمام مسار اضطراري ينحصر في الانفتاح على الكيان الصهيوني وتطبيع العلاقات معه. ولا شكّ أن أحداث السويداء أواسط شهر تموز/ يوليو 2025، التي نجح فيها الجانب السوري الرسمي بفرض موقفه وإرادته على الجانب الإسرائيلي وعلى الأطراف الدولية، تُظهر إمكانية الممانعة، وتوظيف عناصر القوة، وتحقيق نتائج أفضل بكثير من التجاوب مع الضغوط الخارجية.
3. يتحمّل الشعب السوري وقواه السياسية الحيّة ومؤسسات المجتمع المدني، مسؤولية كبيرة في لعب دور مؤثر لتصليب الموقف الرسمي في مواجهة الضغوط الخارجية. ولا شكّ أن حراكاً شعبياً واسعاً ونشطاً في التعاطف مع الشعب الفلسطيني ورفض جرائم الإبادة الوحشية، سيكون له تأثير مهم في تعزيز صلابة الموقف الرسمي، ويوجّه في الوقت ذاته رسائل مهمة لمختلف الأطراف، بأن ثمة شارعاً نشطاً وحيوياً يرفض الترويض والتموضع في مساحات تتناقض مع الثوابت الوطنية والقومية والإسلامية.
إن “ورقة” رفض التطبيع هي ورقة شعبية رابحة، تعمِّق الالتفاف الشعبي حول القيادة السورية، وتوفر لها حصانة داخلية قوية، بما يضعف قدرة الإسرائيليين والأمريكان وحلفائهم على ممارسة الضغوط، وتوفر هامش مناورة أوسع للقيادة في مواجهة هذه الضغوط؛ خصوصاً مع إدراك أن ثمة مخاطر وآثار عكسية كبيرة محتملة إذا ما تجاوزت الضغوط مداها.
[*] إعلامي وكاتب أردني من أصل فلسطيني. خبير في الشؤون السياسية والاستراتيجية الفلسطينية والأردنية. نُشرت له مئات المقالات والتحليلات السياسية وتقديرات الموقف وأوراق العمل، بالإضافة إلى حضوره النشط في الوسائل المرئية والمسموعة.
للاطلاع على ورقة السياسات بصيغة بي دي أف، اضغط على الرابط التالي: >>ورقة سياسات: الخيارات السورية في إدارة العلاقة مع الكيان الإسرائيلي … أ. عاطف الجولاني ![]() |
مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 14/8/2025
أضف ردا