مدة القراءة: 12 دقائق

بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات. English_Version

مقدمة: 

ناقشنا في مقال سابق السياسة الأمريكية في المنطقة وخصوصاً العراق. أما هذا المقال فيحاول تسليط الضوء على سياستها في سورية. إذ كانت هذه السياسة طوال السنوات الخمس الماضية معنية بإضعاف نظام الأسد، ولكنها لم تكن معنية بشكل جاد بإسقاطه، ولا بتحقيق تطلعات الشعب السوري، ولا حتى بحماية الشعب السوري… لقد كانت معنية بإدارة لعبة الإضعاف والتفكيك، من خلال الدفع باتجاه بيئات ترتفع فيها جدران الدم، لتنشأ سايكس بيكو اجتماعية طائفية عرقية، بغض النظر إن كان سيتبعها تغيير في حدود سياسية.

وتدخل الادعاءات بأن التدخل الإيراني والروسي في سورية هو نتيجة الضعف الأمريكي وتراجع دور أمريكا في المنطقة، في إطار المبالغات التي تؤدي إلى استنتاجات خاطئة. كل ما هنالك أن هذه التدخلات تصب في نهاية المطاف في “الطاحونة الأمريكية”، ودون أن تكلف الأمريكان أعباء مالية أو عسكرية؛ وتسهم في إطالة أمد الصراع وإنهاك الأطراف المتنازعة في ظلّ عدم وجود رغبة أمريكية جادة في توقف الصراع أو إنهائه؛ بانتظار أن تنضج “الطبخة”، دون أن يكون ثمة مانع في أن تكون أطراف معادية أو منافسة لأمريكا حطباً يُبقي على اشتعال النار تحت هذه “الطبخة”.

  السياسة الأمريكية في سورية:

وقريباً من الحالة العراقية، تتلخص السياسة الأمريكية في سورية في “ضبط إيقاع” الأحداث بشكل يسمح بــ:

1. استمرار الصراع لأطول فترة ممكنة، بما يؤدي إلى ضرب النسيج الاجتماعي السوري وارتفاع جدران الدم بين مكوناته الطائفية والعرقية.

2. استمرار الصراع بشكل مدمر، بما يؤدي إلى تدمير الاقتصاد والبنى التحتية ووسائل الإنتاج.

3. استمرار الصراع بما يدمر الدولة المركزية والجيش المركزي، دون أن تحل مكانه قوة ثورية مركزية فاعلة، وبما يسمح بنشوء مليشيات وقوى طائفية وعرقية تسيطر على مساحات جغرافية محددة في ظلّ سلطة مركزية ضعيفة.

4. ضمان أمن واستقرار الكيان الصهيوني في أي ترتيبات مستقبلية متعلقة بالمنطقة.

ولذلك، فإن الولايات المتحدة لم تكن معنية بالتدخل المباشر، ولكن بـ”إدارة اللعبة”، والإشراف العام على سيرها، بما يضمن ويحفظ المسارات الكلية التي تصبُّ في مصلحتها وتخدم سياساتها، وهو أمر يتوافق مع عقلية الإدارة الديموقراطية لأوباما التي تركز على الوسائل “الناعمة”.

بيئة التدخل الخارجي:

منذ إسقاط نظام صدام حسين في العراق 2003 واغتيال رفيق الحريري في لبنان 2005 والمحافظون الجدد متحمسون للضغط على سورية، للتخلي عن ورقة المقاومة، وللتساوق مع مسار التسوية السلمية. وقد كتب شارلز كراوثامر في مقال نشرته الواشنطن بوست في 1/4/2005 أن هناك محور شرٍّ جديد يتمثل في سورية وإيران وحماس وحزب الله والجهاد الإسلامي وأن “سورية هي الجائزة”؛ حيث إنه من السهل الضغط عليها. وادعى روبرت ساتلوف (المدير التنفيذي لمركز واشنطن لسياسة الشرق الأدنى) أن النظام السوري في وضع هشٍّ جداً، وأن على أمريكا أن تستغل ذلك. كما كتب دينيس روس وغيره كلاماً شبيهاً بذلك. غير أن الكتابات كانت تركز على ما هو مطلوب من سورية تجاه العراق ولبنان ومسار التسوية والمقاومة؛ وتفتقر للتركيز على الإصلاح وتطبيق الديموقراطية… أي أن الحديث كان منذ البداية مرتبطاً بالسعي لإعادة تشكيل المنطقة وفق المصالح الأمريكية والإسرائيلية. وفي أيلول/ سبتمبر 2005 نقل نيكولاس بلاندفورد مراسل كريستيان سيانس مونيتور عن خبير دراسات الشرق الأوسط جون لانديس قوله “سوف يمسكون بخناق سورية، ويضغطون عليهم، ويهزوهم بعنف، حتى يروا ما الذي يمكن أن ينزل من جيوبهم”!!

عبَّر الحراك الشعبي الواسع في سورية في ربيع 2011 عن إرادة حقيقية في التغيير؛ ولعدة أشهر ظلت الانتفاضة الشعبية تأخذ طابعاً مدنياً سلمياً… غير أن النظام السوري فضَّل الحل الأمني العنيف، مما أدى لاستشهاد نحو ستة آلاف سوري مع نهاية 2011… وهو وضع جرَّ إلى “عسكرة الثورة” ، بعد أن أغلقت الأبواب في وجه أي حراك ذي طبيعة مدنية، يمكن أن يؤدي إلى تغيير حقيقي نحو نظام ديموقراطي، يعبر تماماً عن الإرادة الشعبية.

كانت عملية “عسكرة الثورة” عملاً محفوفاً بالمخاطر؛ غير أن النظام السوري وجد فيها أفضل خياراته المتاحة في مواجهة التغيير، إذ كان هذا الخيار سيتيح له قمع الحراك الشعبي، ومحاصرة البؤر الثورية وعزلها عن بُعدها الجماهيري؛ كما أن لجوء جانب من المعارضة للخيار العسكري سيتيح للنظام اللعب في المنطقة التي يجيدها، حيث لا تملك المعارضة إمكانات عسكرية في مواجهته؛ وهو من جهة ثالثة سيستخدم آلته الإعلامية في وصف المعارضة العسكرية بالتطرف والإرهاب، وبالتالي سيحاول تقديم نفسه في صف واحد مع المعسكر المحارب للإرهاب… بما يتوافق مع المخاوف والرغبات الغربية؛ وبما “يُشرعن” قمعه للحراك الشعبي الثوري في أعين الآخرين.

غير أن مثل هذا العمل لم يأخذ في حسبانه أنه مثلما أجاز لنفسه استخدام القوة العسكرية، ومثلما أجاز لنفسه الاستعانة بقوى خارجية إقليمية ودولية؛ فإن هذا الحراك الشعبي عندما يكون قوياً وواسعاً لن ينزوي في البيوت، وإنما ستتحول أطراف منه إلى الثورة المسلحة، وهو ما سيضطرها لاستجلاب الدعم الخارجي السياسي والعسكري…

وهكذا، فقد فتح إصرار النظام على قمع الثورة، وإصرار الثورة على إسقاط النظام… فرصة هائلة للتدخل الخارجي، زادت مع الزمن، مع تحول الصراع إلى حرب استنزاف منهكة للطرفين. وهذا أعطى فرصة ذهبية للأمريكان لمحاولة الدخول كلاعب كبير في الصراع الداخلي السوري… بل كـ”مايسترو” يتحكم بالمسار الكلي للعبة.

سياسات وإجراءات أمريكية:

وحتى تنفذ الإدارة الأمريكية سياستها، فقد قامت من ناحية أولى بدعم قوى المعارضة في المطالبة بإسقاط الأسد، وغضت الطرف عن تسليح المعارضة وقيامها بالسيطرة على أجزاء من سورية، ووضع النظام في مرحلة صعبة، لكنها لم تسمح إطلاقاً بتسليح المعارضة بأسلحة نوعية تؤدي لهزيمة النظام أو لإسقاطه، ومنعت الدول الداعمة للمعارضة (كقطر والسعودية وتركيا) من توفير هذا السلاح، حتى لو توفر التمويل اللازم لذلك.

ومن ناحية ثانية، سكتت أمريكا عن التدخل الإقليمي لدعم النظام السوري (إيران وحزب الله…)، وغضت الطرف عن تدفق السلاح والمقاتلين الداعمين للنظام (خصوصاً وأنه يعطي للصراع طبيعة مذهبية طائفية، في أعين قطاعات شعبية واسعة، ويتوافق مع الرغبات الأمريكية في توريط وإنهاك إيران وقوى “المقاومة والممانعة”، وحرف بوصلتها، واستعداء شعوب المنطقة ضدها، وإظهارها كمُعادٍ وقامع لتطلعات الشعوب)؛ بحيث يتمكن النظام من البقاء، وأخذ زمام المبادرة والتوسع؛ ثم يتبع ذلك سماح أمريكا بتدفق السلاح للمعارضة لاسترداد المواقع التي خسرتها… بحيث تتواصل حالة الشعور لدى كلا الطرفين بإمكانية الانتصار والحسم العسكري للمعركة، وبالتالي تستمر عملية التدمير والقتل والإنهاك المتبادل. وهذا مشهد بات مألوفاً ومتكرراً في الحالة السورية.

وقد أدت هذه السياسة إلى معاناة هائلة للشعب السوري وللأطراف المتصارعة. فقد بلغ عدد الضحايا، خلال نحو خمس سنوات وشهرين (حتى 25/5/2016) إلى نحو 282 ألف سوري، وأُصيب نحو مليونين بجراح، وتمّ تشريد نحو 11 مليوناً. مع الإشارة إلى أن الخسائر البشرية في القوات العسكرية للنظام والمليشيات الموالية بلغت أكثر من مائة ألف.

ومن ناحية ثالثة، فبالرغم من تباكي أمريكا على الحالة الإنسانية، فقد رفضت إعلان سورية منطقة حظر لطيران النظام (ولم يكن ذلك أمراً صعباً ولا مكلفاً على الأمريكان)، وتركت المجال واسعاً وآمناً لهذا الطيران لقصف المناطق التي تسيطر عليها المعارضة؛ في الوقت الذي منعت فيه وصول أسلحة نوعية مضادة للطيران لقوى المعارضة. ولم يكن ذلك أمراً صعباً ولا مكلفاً على الأمريكان، الذين وفروا حظراً جوياً على طائرات النظام العراقي في شمال العراق لحماية الأكراد منذ سنة 1991؛ والذين وفروا هذه الحماية أيضاً في أثناء عملية إسقاط النظام الليبي. وبحسب اللجنة السورية لحقوق الإنسان فإن سنة 2015 لوحدها شهدت 619 مجزرة من بينها 413 ارتكبها طيران النظام السوري و79 ارتكبها الطيران الروسي.

ومن ناحية رابعة، فقد تعمدت الولايات المتحدة إفشال إنشاء المنطقة الآمنة في شمال سورية على الحدود مع تركيا، والتي كانت ستخفف كثيراً من معاناة مئات الآلاف من المهجرين السوريين، وتوفر ملاذاً للمعارضة السورية. بالرغم من أن ذلك لم يكن أمراً مكلفاً للأمريكان، إذ كان أصدقاؤهم الأتراك والسعوديون والقطريون سيتولون تكاليفه المادية والعسكرية. مع ملاحظة أن أمريكا وفرت “عملياً” هذا النوع من الحماية للقوات الكردية السورية (وحدات حماية الشعب) التي تمكنت من مدِّ نفوذها على مناطق واسعة في الشمال السوري، بما يكرس الهيمنة العرقية لأحد مكونات الشعب السوري دون غيره من قوى المعارضة؛ وبما يتوافق مع فكرة الإضعاف والتقسيم ورفع الجدران الطائفية والعرقية التي تتبناها الإدارة الأمريكية.

ومن ناحية خامسة، فإن الولايات المتحدة التي كانت قد تحمست للتدخل لحماية المدنيين السوريين بعد ظهور تقارير عن استخدام النظام السوري لغاز السارين الذي أدى لقتل 1,400 مدني في الغوطة في صيف 2013، قد تراجعت دون أسباب واضحة عن مهاجمة النظام السوري. وقد اعتبر جيفري غولدبيرغ في المقال الذي نشر في مجلة ذا أتلانتيك في نيسان/ أبريل 2016 أن يوم 30/8/2013 هو اليوم الذي طوى فيه أوباما حكم أمريكا للعالم، عندما قرر عدم ضرب سورية؛ مكرساً ما عُرف بـ”عقيدة أوباما” بأن التدخل الأمريكي يكون فقط لحماية الأمن القومي الأمريكي، وأن ما لا يُحلُّ بالتفاوض لا يُحلُّ بالقوة، وأنه لا ينبغي تعريض الجنود الأمريكيين للخطر، وفق مبدأ “مسؤولية الحماية” للحؤول دون كوارث إنسانية.

هذا المقال الذي جرى تسويقه على نطاق واسع، باعتباره مُعَبِّراً عن استراتيجية الإدارة الأمريكية وتراجع دورها العالمي، يحمل الكثير من التضليل فيما يتعلق بالشأن السوري. إذ إن استخدام الصواريخ المنطلقة من حاملات الطائرات الأمريكية أو الطائرات العسكرية الأمريكية المتقدمة لم تكن تحمل مخاطر تذكر على أمن الجنود الأمريكيين. وفي المقابل فإن الطيران الأمريكي له الدور الرئيسي في مهاجمة معاقل داعش، وفي دعم القوات الكردية في سورية. كما أن الأمريكان لديهم نحو  4,600 جندي أمريكي في العراق، يشاركون بغطاء جوي أمريكي في مهاجمة مناطق نفوذ داعش هناك. بمعنى أن الأمر لم يكن متعلقاً بتغير في الاستراتيجية الأمريكية، بقدر ما أنه لم تكن هناك رغبة أمريكية في التدخل في سورية، ما دام سياق الأحداث يصبُّ في المسارات التي ترغبها.

ولذلك فقد اكتفت أمريكا في موضوع الأسلحة الكيماوية بحلٍّ يخدم استراتيجية إضعاف سورية، كما يخدم الكيان الإسرائيلي، ويتلخص في موافقة النظام السوري على التخلص من أسلحته الكيماوية. ولكنه حلٌّ يترك للنظام السوري حرية الاستمرار في حربه ضدّ المعارضة براً وبحراً وجواً؛ ولا يأبه إن كان المدنيون السوريون سيقتلون بأي وسائل أخرى. وبالتالي، فإن النظام السوري قتل بالأسلحة العادية عشرات أضعاف ما قتله بالكيماوي. ووفق الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فقد بلغ عدد الضحايا المدنيين على أيدي النظام خلال السنوات الخمس الأولى للصراع نحو 184 ألفاً، بينما قتل من المدنيين على يد فصائل المعارضة نحو ثلاثة آلاف وعلى يد داعش ألفان ومئتان.

من ناحية سادسة، فإن التدخل الروسي لصالح النظام السوري لم يكن ليتم لولا عدم الممانعة الأمريكية لذلك. وهو تدخل لم يُفرض فرضاً على الأمريكان. إذ لا مانع لدى الأمريكان من انزلاق الروس في المستنقع السوري، ولا مانع لديهم من أن يعيد الروس الكفة لصالح النظام، ويقوموا بضرب المعارضة طالما أن هذه المعارضة لم تنضبط مع المعايير الأمريكية، سواء في هويتها الإسلامية والوطنية أم في سقف تطلعاتها في التغيير.

وقد أنقذ التدخل الروسي النظام السوري من حالة تراجع متسارعة شهدها في ربيع وصيف 2015… وبالتالي أدى إلى العودة إلى حالة النزيف المتبادل بين الجانبين، التي يرغب الأمريكان باستمرارها. كما أن التدخل الروسي أضعف من النفوذ الإيراني على النظام السوري وعلى مجريات الأحداث، وإن بدا وكأنه تخفيف للعبء الإيراني في سورية. بالإضافة إلى أن هذا التدخل خدم الأمريكان ضمناً، لأنه أسهم في توسيع حالة الغضب والعداء ضدّ الروس لدى معظم شعوب المنطقة. ثم إن التفاهم الأمريكي مع الروس بشأن مستقبل سورية وفق ترتيبات استراتيجية وبراجماتية بين الطرفين، بحيث يحصل الروس على نصيب مقبول من الأمريكان من الكعكة، يظل أسهل بالنسبة للأمريكان من التفاهم المباشر مع الإيرانيين أو النظام السوري. وقد ظهر من التدخل الروسي أن معظم هجماته استهدفت قوى معارضة غير داعش، بخلاف السبب المعلن للتدخل الروسي، كما أنه دمر مستشفيات ومدارس ومخابز ومرافق حياة مدنية، وقتلت طائراته في سبعة أشهر (حتى 30/4/2016) حسب المرصد السوري لحقوق الإنسان 5,800 بينهم 2,005 مدنيين من ضمنهم 800 طفل.

وقد عكست زيارة رئيس وزراء العدو الإسرائيلي نتنياهو لموسكو في 7/6/2016 مؤشراً واضحاً على أن التدخل الروسي لن يمس بحجر الأساس للسياسة الأمريكية في المنطقة وهو “إسرائيل وأمنها”. وكانت الهدية التي سلمها الروس لنتنياهو، وهي دبابة إسرائيلية من نوع باتون 48 غنمها السوريون سنة 1982 في معركة السلطان يعقوب من الإسرائيليين؛ ذات دلالة بالغة. إذ تؤكد على التأثير الروسي على صانع القرار السوري، كما تؤكد على الطمأنة الروسية للإسرائيليين بشأن الدور الروسي في سورية. وهذا ما جعل نتنياهو يقول قبيل الزيارة “إن تعزيز العلاقات مع روسيا هو عامل الأمن القوي الحاسم، الذي أنقذ الدولة اليهودية من مواجهة على الحدود الشمالية للبلاد…”. وقد أظهرت الأحداث أن الروس ينسقون بشكل كامل مع الإسرائيليين بشأن طلعاتهم الجوية في المناطق المحاذية للاحتلال الإسرائيلي.

من ناحية سابعة، فإن الأمريكان تساوقوا مع الفكرة التي يروجها النظام السوري وحلفاؤه من أنه يحارب “الإرهاب” و”التكفيريين”…، وبدا وكأن المشكلة في سورية في جوهرها “محاربةً لـلإرهاب” وليس “ثورةً” للشعب السوري. واختار الأمريكان أن تنصبَّ جهودهم العسكرية المعلنة على حرب داعش والنصرة، واشترطوا لتسليح وتدريب فصائل المعارضة أن تقاتل داعش وليس النظام السوري. غير أن ثمة معطيات تحتاج إلى استيضاح، أبرزها أن المتضرر الأكبر من تمدد “داعش” لم يكن النظام السوري وإنما قوى المعارضة، التي تمدد داعش في معظم الأحيان على حسابها، وأنهكها في معارك استنزاف دموية واسعة. كما أن النظام السوري كان المستفيد الأكبر من رسم صورة المعارضة في شكل داعشي تكفيري متطرف، ليبرر بقاءه وليبرر ممارساته، ليس في قمع داعش فقط وإنما بشكل أساسي في قمع الثورة السورية بكافة فصائلها المعتدلة الإسلامية والوطنية. ولعل إفراج النظام السوري عن مئات المتطرفين الإسلاميين في بداية الثورة السورية، يعطي مؤشراً على رغبة النظام في وجود أمثال هؤلاء في أوساط المعارضة لتشويهها أو لحرف بوصلتها.

ولعل تقييم “داعش” ودوره يحتاج إلى دراسة خاصة. أما كيف تمكن داعش من السيطرة على مساحات واسعة من الأرض السورية وبسرعة مذهلة، وتحت سمع وبصر أمريكا والنظام السوري وحلفائه. ولماذا تعلن أمريكا بكل ما تملك من جبروت عسكري (والتي احتلت العراق في ثلاثة أسابيع) أنها بحاجة لسنوات لمحاربة هذا التنظيم؟ فيستحق وقفة خاصة. فقد تحدث جيمس تيري James Terry  قائد الحملة العسكرية الأمريكية على داعش في كانون الأول/ ديسمبر 2014 عن الحاجة لثلاث سنوات على الأقل ليتمكن التحالف من بلوغ نقطة التحول ضدّ داعش. أما وزير الخارجية جون كيري فتحدث في حزيران/ يونيو 2015 عن الحاجة من ثلاث إلى خمس سنوات لهزيمة داعش. أما ليون بانيتا وزير الدفاع السابق في حكومة أوباما فقد ذكر في تصريح، لا يخلو من مبالغة متعمدة، لجريدة يو أس إيه تودي في 6/10/2014 أنه يتوقع أن تستمر الحرب على داعش ثلاثين عاماً وفق الطريقة التي تعتمدها إدارة أوباما.

هذا يعني أن أمريكا تريد الإبقاء على “فزاعة” داعش لأطول فترة ممكنة، للوصول للوضع الذي تريد، لأن حالة التطرف التي يمثلها داعش تعطي وَصفة مثالية للتموضع الطائفي والعرقي وارتفاع جدران الدم والكراهية، التي تصب طريقة عمل داعش مباشرة في طاحونتها. فـ”الإرهاب السني”؟! (حسبما يريدون تقديمه، وليس الثورة الشعبية السورية) سيقابله تموضعات علوية وشيعية ودرزية ومسيحية، كما سيتيح المجال للتموضع العرقي الكردي. أما وجود ثورة سورية شعبية تملك رؤية حضارية ونهضوية، فإنها لن تكون بديلاً مقبولاً للنظام السوري، لأنها ستفسد على الأمريكان رغبتهم في إضعاف المنطقة وإنهاكها. ولذلك فإن محاربة داعش ستبقى شعاراً يملأ الأجواء ويشغل السياسة والإعلام، بانتظار إنهاك وإضعاف المكون الشعبي الأوسع للحراك والتغيير في المنطقة (والذي تتحرك داعش في أحشائه) وهو “المكوِّن السني”.

من ناحية ثامنة، فإن هناك رغبة أمريكية في استمرار الضغط على نظام الأسد بغرض إنهاكه وتطويعه، بما يخدم تخليه عن برامج وشعارات المقاومة، ويدخله في منظومة التسوية السلمية وفي محور “الاعتدال” والتطبيع مع الكيان الصهيوني. وفي الوقت نفسه، فإن أمريكا و”إسرائيل” تقدران عالياً هدوء الجبهة مع سورية طوال السنوات الأربعين الماضية، وعدم رغبة النظام السوري في الدخول في صراع مباشر مع الكيان الإسرائيلي. ولذلك، فثمة إجماع أمريكي إسرائيلي بعدم الرغبة في إسقاط النظام أو تغييره (خصوصاً مع استناده إلى أقلية طائفية)، حتى ولو بقوى علمانية ديموقراطية ليبرالية، إلا إذا كان ذلك يضمن مزيداً من النفوذ الإسرائيلي الأمريكي. ولأن الخط العام لقوى المعارضة السورية لا يقل تشدداً تجاه “إسرائيل” عن موقف نظام الأسد… فإن بقاء النظام (ولو من دون شخص الأسد) يظل خياراً مفضلاً.

من ناحية تاسعة، فإن الولايات المتحدة ترى في وجود نظام سياسي في سورية يستند في جوهره إلى أقلية طائفية، أو إلى نظام شمولي، فرصةً أفضل لتعريضه للضغط وابتزاز المكاسب منه، لعدم استناده على قاعدة شعبية واسعة أو على أسس حكم راسخة، يحتمي بها عند تعرضه للضغط الخارجي. ولذلك فلن تبدو متحمسة لوجود نظام ديموقراطي حقيقي يعبر عن الإرادة الشعبية، لأن الإرادة الحقيقية للشعوب ستُمثل خطراً على مصالحها في المنطقة، وستسعى أمريكا لتعطيل هذا المسار أو إضعاف دوره، بحجة حماية الأقليات وضمان أدوارها في السياسة وصناعة القرار… .

سياسة أمريكية غير معلنة:

إنّ جزءاً كبيراً من السياسة الأمريكية في سورية لا يظهر بشكل معلن. وقد تسبب ذلك في إظهار الولايات المتحدة وكأنها طرف ضعيف فاقد للاتجاه. ولعل الإدارة الأمريكية فضّلت هذه الصورة السيئة، في سبيل ألا تُصرِّح بسياستها الرسمية الفعلية. ولذلك فقد ظهر كلٌّ من وزير الدفاع آشتون كارتر Ashton Carter ورئيس هيئة الأركان المشتركة جوزيف دنفورد  Joseph Dunford في حالة بئيسة ومرتبكة ومزرية في جلسة الاستماع التي عقدتها لجنة الدفاع في الكونجرس الأمريكي في 27/10/2015… ولم يجدا إجابات منطقية لأسئلة السيناتور ليندسي جراهام Lindsey Graham.

فقد كانت لديهما إجابات محددة حول دعم مقاتلين سوريين لضرب داعش، لكنهما كانا مرتبكين تماماً عندما تعلق الأمر بدعم المعارضة لإسقاط النظام أو تغييره… ولذلك علق جراهام في نهاية كلمته قائلاً:

إذا كنت مكان الأسد، فهذا يوم جيد بالنسبة لي، لأن أمريكا قالت دون تصريح أنها لن تقاتل لتغييري؛ وهذا يوم جيد لحلفاء الأسد، لأنه ليس عليه تهديد عسكري حقيقي. ما فعلتما أنكما بالتوافق مع الرئيس

[أوباما] أخبرتم الشعب السوري الذي مات بمئات الآلاف “نحن قلقون أكثر بشأن استقرارنا السياسي من الذي قد يأتي”. كل ما يمكنني قوله أن هذا يوم تعيس لأمريكا، وأن المنطقة ستدفع ثمن هذا الجحيم؛ لأن العرب لن يقبلوا بذلك، والشعب في سورية لن يقبل بذلك. هذه استراتيجية حمقاء على أفضل تقدير.

مساران للحلول:

القراءة المتأنية للسلوك السياسي والعملي الأمريكي، وخلاصة الدراسات الصادرة عن مراكز الدراسات والكتَّاب والمؤثرين في صناعة القرار تصبُّ في اتجاهين:

الأول: بقاء الدولة السورية بحدودها الرسمية، مع نشوء نظام سياسي ضعيف، لا يستطيع التعامل مع المشاكل والصراعات الداخلية، حيث ترتفع جدران الدم الطائفية والعرقية، وحيث تسيطر القوى المحلية على مناطقها؛ ويكون في الوقت نفسه لديه من القوة ما يكفي للحفاظ على أمن واستقرار الحدود الخارجية، خصوصاً مع الكيان الإسرائيلي.

هذا النظام سيكون أشبه بالحالة اللبنانية والعراقية، وسيكون دوره أقرب إلى “طفاية حرائق” محلية، دون أن يمتلك مقومات النهوض والاستقرار والتنمية والقوة، بينما ستستعين القوى الطائفية والعرقية المحلية بقوى إقليمية ودولية، للحفاظ على مكاسبها ولمنع “تغوُّل” النظام عليها.

الثاني: تقسيم سورية إلى دويلات: علوية وسنية ودرزية وكردية تنشأ على أنقاض الدولة السورية؛ وهو تقسيم لا يكتفي بجدران الدم الاجتماعية، وإنما يسعى لإعطائها شرعيات وحدوداً سياسية.
ولعل الاتجاه الغالب حتى هذه اللحظة هو الاتجاه الأول، خصوصاً مع وجود مخاوف حقيقية من أن نشوء دويلات ضعيفة سيُسهّل على ما يُسمى القوى “المتطرفة” النفاذ عبر الحدود وإشعال العمل المقاوم ضدّ الكيان الإسرائيلي، كما أن الكيانات الضعيفة ستدفع بشكل أقوى أصحاب المشاريع النهضوية والوحدوية لتقديم مشاريعهم بشكل أكثر جدية وحيوية. ثم إن هذه التقسيمات ستثير مخاوف دول إقليمية كبيرة لديها أقلياتها المتحفزة كما في إيران وتركيا.

ومع ذلك، يبقى خيار التقسيم خياراً مفضلاً لدى أمثال المستشرق الشهير برنارد لويس وتلاميذه المنبثِّين بين “المحافظين الجدد” واليمين الديني المتطرف… والذين يرون أن هذا التقسيم يجعل من الكيان الصهيوني بهويته اليهودية كياناً طبيعياً وسط كيانات قائمة على هويات طائفية وعرقية. وهو ما يتوافق مع ما دعا إليه الخبير السياسي الأمريكي ذو الأصل الهندي باراج خانا Parag Khanna في 13/1/2011 عندما نشر مقالاً في أحد أهم المجلات الأمريكية والعالمية وهي الفورين بوليسي Foreign Policy دعا فيه “أن تُنفذ كل الانقسامات القادمة بالترافق مع تطبيق مزيج من سياسة المشرط والفأس، أي بالمرونة والقسوة معاً، وفوق كل ذلك، يجب أن يدرك العالم أنّ هذه الانقسامات لا مفر منها”.  وكذلك عما كتبه خانا بالاشتراك مع فرانك جاكوبس ونشر في النيويورك تايمز في 22/9/2012، حيث توقعا، بالنسبة لسورية، إما نموذجاً كالنموذج اللبناني حيث يتم تفريغ السطة المركزية من محتواها، أو العودة للشكل الذي فرضه الاستعمار الفرنسي بإيجاد دويلات منفصلة واحدة علوية وثانية درزية، ودُويلتي مدن في كلٍّ من دمشق وحلب (بأغلبيتين سُنِّيتين)؛ غير أنهما لم يشيرا إلى مصير المناطق ذات الكثافة الكردية في شمال شرق سورية، وإن كانا قد دعما إنشاء دولة كردية في شمال العراق. كما دعوا إلى إعادة تشكيل خرائط  إيران وأفغانستان وباكستان من خلال إنشاء باشتونستان وبلوشستان وأذربيجان الكبرى.

وبشكل عام، تبدو الحلول التي يتجه إليها الأمريكان للأزمة السورية متوافقة مع مسارات الإضعاف والتقسيم الداخلي. وهي حلول تتوافق إلى حدٍّ ما مع الاقتراح الروسي بالحلّ الفيدرالي في سورية. وبحسب جوناثان ستيفنسون في مقاله المنشور في نيويورك تايمز في 19/3/2016 (ونشرت الحياة ترجمته في 23/3/2016) فقد ألمح وزير الخارجية الأمريكي كيري أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ أن التقسيم قد يكون هو الخطة ب Plan B إذا أخفقت المفاوضات السياسية. وتحدث ستيفنسون عن رواج فكرة “مركز قرار رخو، وصلاحيات واسعة للمناطق” لدى المعنيين بصناعة القرار. كما ألمح جون يرينان John Brennan، مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA، إلى احتمال سيطرة بعض من وصفها بالجماعات الأيديولوجية على مناطق مستقلة من سورية، في كلمة ألقاها الجمعة 29/7/2016 في منتدى أسبين الأمني السنوي.

وتصب طروحات مركز راند للدراسات (الذي يعد أحد أهم مراكز التفكير في الولايات المتحدة) في الاتجاه نفسه، فقد نشر دراسة في كانون الأول/ ديسمبر 2015، وحدثها في حزيران/ يونيو 2016، بعنوان خطة سلام لسورية A Peace Plan for Syria تجعل الأولوية لوقف إطلاق النار، وتقسيم سورية إلى أربع مناطق، بحيث تكون هناك منطقة تحت نفوذ النظام الحالي، وثانية تحت نفوذ المعارضة، وثالثة تحت نفوذ الأكراد. أما الرابعة فيتم التعامل معها دولياً باعتبارها تحت نفوذ داعش. وتركز الفكرة على ضمانات دولية ودورٍ خارجي، وإطلاق نقاش “طويل” لتحديد سورية المستقبل. مع التأكيد على فكرة الحكم اللا مركزي ضمن الدولة الديموقراطية الواحدة. وتحاول هذه الدراسة “عملياً” إعطاء الأولوية لوقف القتال، وتوجيه الجهود نحو محاربة داعش أو الـ”التطرف”… وتجعل إسقاط النظام… أو إنشاء نظام ديموقراطي حقيقي أمراً مؤجلاً على المدى الطويل.

خاتمة:

أياً تكن قوة الولايات المتحدة وعظمتها، فإنها ليست القدر، وهي لا تستطيع فرض إرادتها على الشعوب التي تسعى للاستقلال، وبناء نموذجها الحضاري بعيداً عن الهيمنة الغربية.

ولذلك، فإن المطلوب سورياً وعراقياً وعربياً وإسلامياً، التأكيد على حرية الشعوب وحقها في إقامة الأنظمة السياسية التي تعبر عن إرادتها، والتعاون على تأسيس مشروع نهضوي حضاري يسع الجميع، ويواجه الانقسامات الطائفية والعرقية، والتكاتف في إغلاق المنطقة في وجه النفوذ والتدخل الخارجي وخصوصاً الإسرائيلي والأمريكي.

هذا المقال هو نسخة معدلة وموسعة عن النص الذي نشر في الجزيرة.نت، الدوحة 13/8/2016