مدة القراءة: 6 دقائق

بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

بعد أربع سنوات من اندلاع الثورات في المنطقة العربية، لا يزال المشهد ضبابيا ويعكس حالة من اللا استقرار، وعدم قدرة الأطراف المتصارعة على الحسم لصالح أي منها.  وما زال هناك صراع إرادات تتنازع فيه القوى الثورية والشعبية مع الأنظمة السياسية التي تسعى للإبقاء على نفسها بكافة الطرق، بينما تسعى القوى الخارجية إلى توظيف حالة اللا استقرار والصراع وضعف مفاصل الدولة بما يخدم مصالحها.

سقطت أربعة أنظمة في تونس ومصر وليبيا واليمن، ويخوض نظام خامس في سوريا معركة البقاء مع قوى ثائرة تسيطر على مساحات لا يستهان بها من الأرض. وفي المقابل، حقَّقت الموجة المضادة للثورات والتغيير أبرز نجاحاتها في الانقلاب العسكري بمصر، وهي ما زالت تحاول أن تحسم المعركة لصالحها في الأماكن الأخرى.

تظهر هذه الأيام أربعة مسارات (سيناريوهات) مستقبلية محتملة على المدى القريب والوسيط (2-7 سنوات تقريباً)، وهي تتلخص فيما يلي:

المسار الأول: نجاح الموجة المضادة، وإعادة تثبيت الأنظمة الفاسدة والمستبدة بديكورات ومسحات تجميلية جديدة.

وهذا يعني أن يستمر ما يسمى “محور الاعتدال” -بالتوافق مع السياسة الأميركية/الغربية في المنطقة، وفي التقاطع مع المصالح الإسرائيلية- في دعم الموجة المضادة للثورات وحركات التغيير في العالم العربي؛ وبشكل يدعم الانقلاب العسكري في مصر، ويضمن إسقاط الثورة في ليبيا، وأن تصب اتجاهات التغيير في سوريا في مصلحتها، بالإضافة إلى الاستمرار في عزل وتهميش الإسلاميين وكل مكونات الثورة في تونس واليمن.

غير أن هذا المسار من الصعب أن يكتب له النجاح إلا إذا تمّ:

1. الاعتراف لإيران بدور أساسي إقليمي، وذلك بغية حلّ الإشكالات وترتيب الأوضاع في سوريا والعراق واليمن وكذلك لبنان، بحيث تحظى إيران بنصيب من “الكعكة” في أي ترتيبات مستقبلية خصوصاً في هذه البلدان، والتي يمكن أن تضاف إليها البحرين بدرجة أو بأخرى.

2. النجاح -أو تحقيق إنجاز كبير- في إغلاق الملف الفلسطيني، باعتباره عنصر تفجير كبيرا في المنطقة، وبسبب تصدُّر قوى الإسلام السياسي للمقاومة. وهو ما يعني محاولة تحقيق اختراق في مسار التسوية السلمية، وضرب قوى المقاومة -وعلى رأسها حماس- وتطويع قطاع غزة وفق معايير السلطة الوظيفية في رام الله.

وهذا المسار، إن تحقق فإن الخاسر الأساسي فيه سيكون التيارات الإسلامية السنية الحركية المعتدلة، التي تراهن على التغيير السلمي وعلى برامج الإصلاح الاجتماعي.

المسار الثاني: اللا استقرار والتفتيت:

ولعل هذا المسار يستجيب لرغبة أطراف إسرائيلية/أميركية في إعادة تشكيل المنطقة بكيانات طائفية وعرقية، وفي استنزاف المنطقة وإنهاكها وضرب مقوماتها السياسية والاقتصادية، وتمزيق نسيجها الاجتماعي، ورفع جدران الدم والكراهية بين أهلها.

هذه الكيانات الطائفية والعرقية ستــُظهر الكيان الإسرائيلي الصهيوني وكأنه كيان طبيعي في المنطقة العربية المسلمة، حيث سيكون كياناً يهودياً إلى جانب كيانات أخرى علوية ودرزية وشيعية وسنية وكردية…؛ وهذا سيضمن -بحسب أحد أكبر المستشرقين الغربيين (برنارد لويس)- البقاء لـ”إسرائيل” خمسين سنة أخرى.

يمكن إرجاع هذا المسار عملياً إلى الاحتلال الأميركي للعراق سنة 2003، الذي أجج المشاعر الطائفية الشيعية والسنية والعرقية الكردية…

وهذا السيناريو يقتضي أن تستمر الصراعات والنزاعات بما يؤدي إلى:

1. أن تقتنع الطوائف والأقليات بأنها لن تشعر بالأمان إلا ضمن كيانات مستقلة.

2. نكران الجميل، وتقديم أولويات التفتيت -باعتبارها مصلحة إستراتيجية عليا- على مصالح أصدقاء وحلفاء الأمس، في الأردن والجزيرة العربية ومصر…؛ بحيث تنتقل عدوى الصراع والتفتيت إلى بلدانهم. وقد كُتب في ذلك مشاريع كنَّا قد أشرنا إليها في مقالات سابقة.

3. أن تستشعر الكيانات والدويلات الصغيرة الناشئة الخطر الدائم على مستقبلها نتيجة النزاعات المستمرة، فلا تجد لنفسها أماناً إلا في الحماية الخارجية التي تجدها في الأميركان؛ بينما يقوم الطرف الإسرائيلي بدور السيِّد والشرطي في المنطقة.

4. هذا السيناريو لا يمانع في وجود كيان سنِّي أو أكثر، شرط أن يمثل حالة مشوهة ومنفرة للإسلام، وأن يُحرم من فرصة تشكيل وعاء حضاري وحدوي جامع لأهل المنطقة.

المسار الثالث: صعود موجة شعبية ثورية جديدة:

وهو مسار ينهي الموجة المضادة ويستفيد من خبرة الثورات في التغيير، وفي بناء التحالفات، وفي إنهاء منظومات “الدولة العميقة”، وفي بناء أنظمة سياسية جديدة قادرة على التعامل مع مختلف التحديات.

وهو مسار يفترض أن الموجة المضادة والأنظمة الفاسدة تحمل بذور فشلها في ذاتها. ومن أبرز معالم هذا السيناريو إنهاء الانقلاب العسكري في مصر، واستعادة الثورات عافيتها في المناطق التي شملها ما يعرف بـ”الربيع العربي”. غير أن مثل هذا المسار يقتضي:

1. أن يستعيد تيار التغيير -وخصوصاً التيار الإسلامي المعتدل- حيويته، وأن يقوم بعمل المراجعات اللازمة التي تمكنه من علاج بناه القيادية والتنظيمية وتحالفاته السياسية، ومن تقديم رؤية تغييرية عملية وحقيقية.

2. أن تقدم تيارات التغيير رؤيتها في ضوء مشروع وحدوي عربي إسلامي تحرري، وأن تخرج عن انغلاقها القـُطْري، وتنسق جهودها فيما بينها.

3. أن يتمكن تيار التغيير من تقديم رموز قيادية تملك القدرة على حشد الجماهير، وعلى أخذ القرارات الحاسمة ودفع أثمانها.

وفي هذا الإطار، فإن القوى الإسلامية المحسوبة على تيارات “السلفية الجهادية” والتشدد والتطرف، قد تحظى بفرص إحداث تغييرات وإقامة إمارات أو كيانات في المناطق “الرخوة”. وقد تزداد فرصها مع إصرار الأنظمة على فسادها واستبدادها، وعلى سد الأبواب أمام أي فرص للتغيير أمام التيارات الإسلامية المعتدلة.

غير أن بعض القوى الإقليمية والدولية قد لا تمانع من بروز هذه التيارات باعتبار أنها قد تتقاطع مع مصالحها في انهيار أنظمة المنطقة وتفتيتها، وباعتبار أنها في الوقت نفسه لا تملك مقومات الحاضنة الشعبية، ولا الكفاءات القادرة على بناء مشروع نهضوي حقيقي، ولا القدرة والخبرة على التعامل مع الظروف الإقليمية والدولية المعقدة، بالإضافة إلى استعداد بعض فصائلها للدخول في معارك دموية ضارية مع التيارات الإسلامية الأخرى ، تستنزف الجميع وتضعفهم.

المسار الرابع: التسويات السياسية والمجتمعية:

وهو مسار يعتمد على فكرة وصول الجميع (القوى المحلية وامتداداتها وتحالفاتها الإقليمية والدولية) إلى أن أياً من الأطراف لن يحسم المعركة لصالحه، وأنه لا بدّ من تقاسم الكعكة بإفساح المجال لشراكة حقيقية. ولعل النموذج التونسي يقدم حالة ملهِمة لهذا المسار لدى عديدين.

غير أن هذا المسار يقتضي:

1. تغيير طريقة “اللعب” لدى الأطراف من لعبة “الكل يخسر” (Lose-Lose Game) إلى لعبة “الكل يربح” (Win-Win Game)، واستعداد كل طرف للتنازل عن جزء من أحلامه.

2. التوافق على قطع الطريق أمام التدخل الخارجي، وخصوصاً الأميركي/الإسرائيلي.

3. توفير شبكة أمان وطنية جامعة تؤمن مرحلة انتقالية سلسة، وتقطع الطريق على القوى المعطِّلة وبناها “العميقة”.

الترجيح بين المسارات:

تبدو حظوظ المسارات الثلاث الأولى أقوى من المسار الرابع في المدى القريب على الأقل، ذلك أن الأطراف المختلفة (خصوصاً في مصر والمشرق العربي) ستميل -حسب الخبرة التاريخية، وحسب تجربة السنوات الأربع الماضية- إلى استنفاد كافة ما لديها من سُبل وإمكانات لتحقيق أهدافها، قبل أن يحسم الجميع أمرهم باتجاه التسويات والمصالحات، وهو ما قد يستغرق وقتاً.

وتبدو فرص نجاح مسار الموجة المضادة معقولة حالياً، في ضوء وجود أجواء إقليمية ودولية داعمة، وفي ضوء قوة دور مؤسسات “الدولة العميقة” في البلدان التي شهدت عملية التغيير، وفي ضوء استمرار مخاوف أنظمة الخليج من انتقال “العدوى” إليها، وبالتالي استمرار دعمها لهذا المسار، وفي ضوء الضربات القاسية التي تلقتها قوى الثورة -وخصوصاً التيار الإسلامي المعتدل- وإمكانية حلّ مشكلة الملف النووي الإيراني.

ومن مؤشرات نجاح هذا المسار تحقيق الانقلاب في مصر لمزيد من الاستقرار و”الشرعية” الدولية، ورضا أو سكوت القوى الإقليمية والدولية عن الانتشار الحوثي الواسع والمسيطر في اليمن، على حساب العملية الانتقالية وقوى التغيير وخصوصاً التجمع اليمني للإصلاح.

غير أن هذا المسار يتهدده وجود فرص حقيقية لنجاح القوى الثورية في ليبيا، والاحتمالات القوية لفشل مشروع التسوية السلمية وتفجر المقاومة الفلسطينية من جديد، وتصاعد خسائر دول الخليج نتيجة انخفاض أسعار النفط وتراجع قدرتها على دعم الموجة المضادة.

كما يتهدده عدم نجاح التسويات المرتبطة بالدور الإيراني في المنطقة، بالإضافة إلى أن أطرافاً إقليمية ودولية قد تفضل استمرار استنزاف إيران وقدراتها الاقتصادية والعسكرية في المناطق المشتعلة، بعد أن تكون قدرة إيران قد وصلت إلى مداها في الانتشار والاتساع (Overstretched).

أما بالنسبة لمسار اللا استقرار والتفتيت فهو يحمل فرص نجاح ولكنها أقل من السيناريو الأول.

ويبدو أن الحالة التي أخذت بُعداً طائفياً وعرقياً حقيقياً في العراق وسوريا -مع تصاعد الاحتكاك الطائفي في اليمن والبحرين ولبنان ومصر، ووجود نزعات انفصالية في اليمن وليبيا والسودان- تشكّل عناصر مشجعة للقوى التي تسعى للتفتيت، وكذلك الإشكاليات التي تعاني منها أسر حاكمة في الخليج، مع وجود أقليات طائفية داخلها قد تغذي نزعة التفتيت لدى بعض القوى التي لا تجد نفسها شريكاً حقيقياً في إدارة الدولة والمجتمع.

ومن جهة أخرى، فإن التاريخ يقول إن معظم مشاريع الوحدة والنهضة سبقتها مشاريع تفتيت وتقسيم، وقد تمكنت الأمة بعدها من استعادة عافيتها وقوتها. كما أن الأقليات والطوائف -إن تجاوبت مع مشاريع التفتيت- ستعاني بشكل هائل من صراعات دامية فيما بينها، أو في مواجهة الغالبية السنية/العربية التي ستسعى لاستعادة زمام المبادرة.

كما أن حالة اللا استقرار التي ستشهدها المنطقة ستفسح المجال لقوى المقاومة ضد المشروع الصهيوني للاستفادة من الفرص التي يتيحها انهيار الدول القـُطْرية، وهو ما قد يُدخل الجانب الإسرائيلي في مخاطر واسعة يواجهها على كافة حدوده الخارجية. كما سيفسح ذلك المجال لقوى التغيير الأساسية لتبني مشروعات وحدوية تحظى بقبول شعبي واسع.

أما بالنسبة للمسار الثالث المرتبط بصعود موجة شعبية ثورية جديدة، فتكمن فرصه في افتراض أن الإنسان في المنطقة خرج عن الطوق، وأن المارد لن يعود إلى القمقم، وأن تيارات التغيير تعلمت وتتعلم من موجتها الثورية الأولى، وأن الموجة المضادة كشفت لها خريطة الأصدقاء والأعداء ونقاط الضعف والقوة، وأن الشعوب في المنطقة ستفرض إرادتها في النهاية، وأن أنظمة الفساد والاستبداد لا مستقبل لها، وأن المشروع الصهيوني إلى زوال.

ومن البوادر المشجعة لهذا المسار صمود المقاومة وأداؤها المتميّز في فلسطين، وصمود القوى الثورية في ليبيا، وبقاء المنطقة في حالة من التّشكل وإعادة التّشكل، وعدم قدرة أي من الأطراف الإقليمية والدولية على فرض أجندته، فضلاً عن استنزافه في مستنقعات المنطقة.

غير أنه من المرجح أن هذا المسار لا يملك فرصاً قوية في المدى القريب، إذ يبدو أن تيارات التغيير والثورة غير جاهزة حتى الآن لأخذ زمام المبادرة، لا على مستوى الرؤية أو القيادة أو منهجية الانتقال من المجتمع إلى الدولة. كما أن الموجة المضادة لم تأخذ بعدُ مداها، ولم تنكشف سوءاتها وتتفجر أزماتها بشكل جلي.

ثم إن البيئتين الإقليمية والدولية ما زالتا مخاصمتين أو معاديتين لهذا المسار. وستتحسن فرص هذا المسار مع الوقت، بقدر ما تملك قوى التغيير القدرة على إعادة ترتيب صفوفها، وتقديم نموذجها بما يستحقه من أثمان.

***
وأخيراً، فإن قناعة كاتب هذه السطور هو أن التغيير قادم بإذن الله، ربما على المدى الوسيط، وأن المشروع النهضوي الوحدوي سيعود للصعود، وأن البيئة الإستراتيجية المحيطة بفلسطين المحتلة سوف تتغير، بما يخدم مشروع التحرير في مواجهة الكيان الصهيوني.

المصدر: الجزيرة.نت، الدوحة، 21/1/2015