مدة القراءة: 7 دقائق

تقدير استراتيجي (50) – تشرين الثاني/ نوفمبر 2012.

ملخص:

من الصعوبة بمكان الجزم بإمكانية خروج قطاع غزة من أسر الحصار خلال المرحلة المقبلة. فعلى الرغم من سقف الأماني المرتفع لدى أهالي القطاع عقب فوز محمد مرسي بسدة الرئاسة في مصر، إلا أن تعقيدات الظروف والمواقف السياسية على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، فضلاً عن عدد من الاعتبارات القانونية تضع كوابح عملية في الطريق، وتصوغ مقاربة واقعية لا تسمح بأكثر من تقديم التسهيلات والمساعدات في ضوء استشراف مستقبل الحصار على القطاع، وتنحى نحو رسم التوافق الفلسطيني الداخلي سبيلاً لإنقاذ القطاع من أزمة الحصار وكافة الأزمات الأخرى التي تعصف به في كل الاتجاهات.

مقدمة:

يعيش قطاع غزة تحت سطوة الحصار المفروض منذ نحو ست سنوات، ويعتمد بدرجة كبيرة في توفير احتياجاته الأساسية ومقومات الحياة فيه على الأنفاق القائمة على الحدود المصرية مع قطاع غزة؛ إذ يبلغ عددها نحو 1,200 نفقا أقدمت القوات المصرية على إغلاق حوالي 120 نفقاً منها خلال حملة المداهمات التي تمت في الأشهر الثلاثة التي تلت حادثة الهجوم على الجنود المصريين في سيناء في 5/8/2012، مع العلم بأن هذه الأنفاق تشكل شريان الحياة الذي يمده بالغذاء والدواء ومستلزمات البنية التحتية.

وبالرغم من إقدام سلطات الاحتلال على تخصيص معبر كرم أبو سالم لإدخال البضائع إلى القطاع في الفترة الأخيرة إلا أن قائمة المحظورات والممنوعات التي كرستها “إسرائيل” على معبر كرم أبو سالم، وما تشتمل عليه من أصناف مهمة ومواد أساسية، اضطر أهالي القطاع إلى استمرار الاعتماد على الأنفاق الحدودية في إدخال البضائع المصرية ريثما يتم بلورة حلول نهائية لاحتياجات القطاع بعيداً عن المنع الإسرائيلي.

ومع فوز مرشح جماعة الإخوان المسلمين د. محمد مرسي في الانتخابات الرئاسية المصرية انتعشت الآمال بشأن إمكانية رفع الحصار عن القطاع، الذي كان يغذيه ويحرص عليه نظام مبارك المنصرف في تحالف وثيق مع إرادة النظام الإقليمي والدولي المعادي لحركة حماس وحكومتها التي تقود القطاع حالياً.

وهكذا ينتصب السؤال الأهم حول مستقبل الحصار المفروض على القطاع، وخصوصا في ظل المشروعات التي تقدمت بها حكومة حماس للقيادة المصرية مؤخرا حول فتح معبر رفح بشكل كامل، وإقامة منطقة تجارية حرة على الحدود بين البلدين، وهو ما يعني طيّا كاملا لصفحة الحصار وانتهاء المعاناة بشكل نهائي عن أهالي القطاع إذا ما وافقت القيادة المصرية على ذلك.

واقع الحصار:

مازال قطاع غزة يعاني الأمرين جراء الحصار المفروض منذ ما يزيد عن ست سنوات، حيث بلغت معدلات البطالة في سنة 2011 نحو 30%  وبلغت نسبة من يقلُّ دخلهم الشهري عن خط الفقر الوطني 67%، بينما يعتمد 85% من أهالي القطاع بدرجات متفاوتة على المساعدات لإنسانية المقدمة من مختلف المؤسسات والجمعيات الخيرية والإغاثية؛ الدولية والعربية.

وتتجلى أبرز مظاهر الحصار فيما يلي:

– تحكم الاحتلال في حركة المعابر التجارية بين قطاع غزة والكيان الإسرائيلي، ومنع دخول عدد كبير من البضائع والمواد الأساسية ومستلزمات البنية التحتية بما يترك أسوأ الأثر على الوضع الاقتصادي والمعيشي وحركة التطور والعمران في القطاع.

– إغلاق معبر رفح لفترات طويلة عقب وقوع الانقسام الفلسطيني الداخلي، ومن ثم تقييد حركة المسافرين منه وإليه، ووضع قائمة سوداء للممنوعين من السفر، قبل أن تُدخل السلطات المصرية تحسينات جزئية على مستوى عدد المسافرين، إلا أن ذلك يبقى دون المستوى المطلوب الذي يلبي احتياجات أهالي القطاع.

– عدم الاعتراف الدولي بشرعية الحكومة التي تديرها حركة حماس في غزة، وربط الاعتراف الدولي حول الدور السياسي للحركة باعترافها بشروط اللجنة الرباعية، ورفض التعامل العلني مع قادة الحركة ووزراء حكومتها أو استقبالهم بأي حال من الأحوال دون أن يلغي ذلك بعض الاتصالات السرية التي أجرتها بعض الدول الأوروبية مع قادة ومسؤولين في الحركة طيلة السنوات الماضية.

– المحاصرة الإسرائيلية للقطاع براً وبحراً وجواً.

موقف حماس:

حرصت حركة حماس وحكومتها على فتح ثغرات في جُدُر الحصار المضروب على القطاع، سياسيا واقتصاديا، عبر:

– تحشيد الدعم العربي والإسلامي في سياق خطابها السياسي والإعلامي والجماهيري، وتعزيز حضور الوفود السياسية والبرلمانية الزائرة إلى القطاع.

– استثمار وجود قيادة مصرية جديدة في الحكم في مصر ما بعد الثورة لجهة دعوتها لرفع الحصار عن القطاع وإنهاء معاناة أهله الصامدين، من خلال فتح معبر رفح بشكل كامل وإدخال البضائع وإقامة منطقة تجارية حرة على الحدود المصرية مع القطاع.

– التأثير على بعض الدول العربية عبر زيارات وجولات متعاقبة تتولاها قيادات حركية في الداخل والخارج، ووزراء في الحكومة، بما في ذلك جولات رئيس الحكومة هنية إلى مصر وقطر وتركيا وبعض الدول الأخرى.

– وما زالت حماس وحكومتها تعلقان آمالا كبيرة على الموقف المصري من ناحية إقرار مشروع المنطقة التجارية الحرة، وفتح معبر رفح دون قيود، خلال المرحلة المقبلة.

موقف فتح والسلطة:

تشعر السلطة الفلسطينية في رام الله وحركة فتح أن رفع الحصار عن غزة بعيداً عن إنجاز المصالحة الفلسطينية الداخلية قد يجعل حركة حماس أكثر زهداً في المصالحة، وقد يحرمهما (فتح والسلطة) من فرصة استعادة غزة وبسط النفوذ عليها من جديد. وهكذا عبرت السلطة وقيادة فتح عن موقف متشدد من الأنفاق باعتبارها وسيلة غير شرعية، وحاولت بشكل أو بآخر عرقلة محاولات حماس وحكومتها لفك الحصار أو لإعادة إعمار غزة تحت إشرافها المباشر.

وزادت حدة وسخونة هذا الموقف مؤخراً عقب المشروع الذي تقدمت به حكومة هنية لإقامة منطقة تجارية حرة على الحدود المصرية مع القطاع، حيث اعتبرت قيادات في السلطة وفتح هذا المشروع الذي يجري تداوله بعيداً عن يد السلطة وعينها أمراً خطيراً وغير مقبول إطلاقاً، وبالتالي يشكل تكريساً للانفصال وإضراراً بالقضية الفلسطينية والمشروع الوطني الفلسطيني.

الموقف المصري:

يبدو الموقف المصري في ظل القيادة المصرية الجديدة ملتبسا بكثير من الصعوبات والتعقيدات إزاء قضية الحصار المفروض على القطاع. فمن جهة أطلق الرئيس محمد مرسي الذي ينحدر من ذات المشارب الفكرية والأيديولوجية مع حركة حماس الحاكمة وعوداً إبان حملته الانتخابية برفع الحصار عن القطاع، كما قدَّم تطمينات لدى لقاءاته بمسؤولي حماس وأركان حكومتها إزاء الرفع التدريجي للحصار المفروض، وقدم جملة من التسهيلات بخصوص معبر رفح وتزويد القطاع بالوقود والكهرباء المصرية.

لكن الضغط الدولي ممثلا بالموقف الأميركي، ومعارضة جهات نافذة داخل الدولة المصرية من قبيل جهاز المخابرات ومفاصل أساسية في الدولة العميقة احتجاجاً باعتبارات قانونية ذات علاقة باتفاقية كامب ديفيد وأخرى سياسية تخشى نفض يد “إسرائيل” من مسؤولية غزة وإلقائها في الحضن المصري، ومعارضة السلطة الفلسطينية وحركة فتح، وعدم رغبة الرئيس المصري في إحداث قفزة نوعية في ظل قسوة التحديات الداخلية والأوراق السياسية المبعثرة التي يتم إعادة ترتيبها تدريجياً، كل ذلك يحول دون إقدام مصر على اتخاذ قرار نهائي بشأن رفع الحصار، ويحملها على قَصْر الأمر على تحسين الوضع الإنساني على المعبر، والسماح بزيادة المساعدات الإنسانية، انتظاراً لتوافق فلسطيني داخلي يريح السياسة المصرية، ويشكل أرضية قوية لرفع الحصار بشكل كامل عن القطاع.

موقف الاحتلال:

تشعر “إسرائيل” بقلق واضح إزاء إمكانية استثمار العلاقات المتميزة بين حركة حماس والقيادة المصرية الجديدة، من ناحية اتخاذ قرار برفع الحصار وفتح معبر رفح وتحويله إلى معبر تجاري، بالإضافة إلى كونه معبراً للمسافرين.

وبالرغم من أن “إسرائيل” نظّرت طويلا للتحلل من أعباء القطاع الاقتصادية والإنسانية وإلقائها في وجه مصر، فإنها تعتقد في الوقت نفسه أن رفع الحصار بدون التنسيق معها، وبعيداً عن “تأديب” وتقليم أظافر قوى المقاومة الفلسطينية، يشكل إضراراً بالغاً بالسياسة الإسرائيلية القائمة على اللعب على وتر خنق القطاع لابتزاز سلطته الحاكمة سياسياً، فضلاً عن الإضرار بمكانة السلطة الفلسطينية في ظل الانقسام الفلسطيني الداخلي.

موقف الإدارة الأمريكية:

لا يخفى أن الإدارة الأميركية تصطف إلى جوار الموقف الإسرائيلي إزاء الرغبة في استمرار فرض الحصار على القطاع حتى استجابة حماس لشروط “الرباعية”، ولا يخفى أيضاً أن الإدارة الأميركية تتولى كِبْر التغطية الدولية لفرض الحصار على غزة وتتعهد باستمراره وحمايته من أي محاولة للكسر أو الاختراق.

وهكذا لم يكن غريبا أن تمارس الإدارة الأميركية تدخلاتها السافرة في وجه نية الرئيس المصري محمد مرسي إزاء رفع الحصار، وأن تتابع وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون بين الحين والآخر الموقف المصري الرسمي للاطمئنان على أنه لم يتغير إزاء حصار القطاع.

آليات اختراق الحصار:

لا تعوّل حركة حماس وحكومتها على حدوث أي اختراق سياسي في العلاقات مع المنظومة الإقليمية والدولية، الراعية للحصار المفروض على القطاع، بما يمكنها من فتح ثغرات حقيقية تسهم في رفع أو تخفيف الحصار. وهكذا لا تجد حماس وحكومتها بدّاً من المراهنة على التغيرات والثورات التي شهدها ويشهدها العالم العربي، وما تحمله من  آمال. كما لا تجد بُدّاً من التركيز على الدورين: القطري والمصري لإنقاذ القطاع من مآزقه المختلفة، انطلاقا من العلاقات المتميزة التي تربطهما بهذين البلدين.

أولا: الدور القطري: ويتمثل في حثّ مسيرة إعادة الإعمار التي أعلنت قطر استعدادها لتمويلها بقيمة ربع مليار دولار، ارتفعت فيما بعد إلى 400 مليون دولار، والتي بدأت عمليا مع وصول وفد قطري إلى قطاع غزة مؤخرا. وتشتمل منحة إعادة الإعمار القطرية على إعادة تأهيل البنية التحتية ومشاريع إغاثية وتنموية مختلفة.

ثانيا: الدور المصري: ويتمثل في التعويل على تحصيل موافقة السلطات المصرية على فتح معبر رفح دون قيود، وإقامة المنطقة التجارية الحرة على الحدود المصرية مع قطاع غزة.

ومن جهة أخرى، فإن هناك مخاوف من تضاؤل الدعم الإيراني الكبير للقطاع سواء بسبب معاناة إيران نفسها من الحصار والعقوبات الغربية الدولية، أم بسبب الاختلاف تجاه التعامل مع الملف السوري والنظرة تجاه الثورات والانتفاضات الغربية. غير أنه في المقابل فإن هناك تعويلاً أكبر على تصاعد الدور التركي في دعم القضية الفلسطينية ودعم رفع الحصار عن قطاع غزة.

سيناريوهات المستقبل:

تحمل الأشهر القليلة القادمة إحدى السيناريوهات الأربعة التالية:

السيناريو الأول: وهو سيناريو الجمود، ويفترض استمرار وضع الحصار القائم على ما هو عليه دون حدوث أي تحسن في الأوضاع الاقتصادية.

وبحسب هذا السيناريو فمن المتوقع أن يستمر التعامل المصري بنفس الخط العام الحالي دون تحقيق استجابة لافتة بشأن ملفي: المعبر والمنطقة التجارية الحرة، وأن تبقى حركة المعابر على النحو نفسه، مع استمرار دخول البضائع عبر الأنفاق ومعبر كرم أبو سالم بنفس الوتيرة، دون أي تغيير، واستمرار معاناة أهالي القطاع.

السيناريو الثاني: وهو السيناريو المتفائل، ويفترض حدوث تحسن ملحوظ في الوضع الاقتصادي القائم والوضع المعيشي لأهالي القطاع، وبناء عليه سيحدث تحسن في حركة البضائع عبر معبر كرم أبو سالم، وتحسن في العلاقات الاقتصادية مع مصر سواء عبر التسهيلات في معبر رفح باتجاهي الصادرات والواردات، أو الشروع في إرساء منطقة التجارة الحرة بين الجانبين، مع تحسن ملحوظ في البنية التحتية وخدمات الوقود والكهرباء والمياه والاتصالات.

السيناريو الثالث: وهو السيناريو المتشائم، ويفترض استمرار الحصار على قطاع غزة وتشديده، وعدم القدرة على تطبيق مشروع المنطقة التجارية الحرة مع تجميد ملف المصالحة الفلسطينية الداخلية. وبحسب هذا السيناريو سيزداد الوضع الاقتصادي سوءاً، وترتفع نسبة الفقر والبطالة، وتتراجع الطاقة الإنتاجية للمنشآت الاقتصادية ويضطر أغلبها للتوقف والإغلاق.

السيناريو الرابع: وهو السيناريو النموذجي، ويفترض انتهاء الانقسام الفلسطيني الداخلي، وتشكيل حكومة توافق وطني، ورفع الحصار عن قطاع غزة بشكل كامل.  وبحسب هذا السيناريو فقد توافق الدول المانحة على دعم حكومة التوافق مالياً وسياسياً، ويتم توحيد الإيرادات والنفقات العامة، وضمان حرية حركة البضائع عبر المعابر المختلفة وتوقيع اتفاقية تجارية خاصة بمعبر رفح.

وبنظرة عميقة إلى الواقع ومعطياته المتوفرة يبدو أن السيناريو الأقرب في الأشهر القادمة يتأرجح ما بين سيناريو الجمود والسيناريو المتفائل، وقد تحمل الكثير من الجمود مع بعض الخطوات الإيجابية، مع تحسن قدرة محمد مرسي على الحكم والسيطرة على مقاليد الأمور، وقد يتضمن ذلك تسهيلات أكثر على معبر رفح؛ مع تنامي وسائل الدعم وكسر الحصار بعد الخطوة التي اتخذتها قطر. لكن سيكون من السابق لأوانه اعتماد منطقة التجارة الحرة، أو اتخاذ خطوات قوية من شأنها استعجال اتخاذ إجراءات عدائية مقابلة من الطرفين الإسرائيلي والأمريكي.

ومع ذلك، فإن هذا السيناريو ليس قدرا مفروضا على الفلسطينيين، إذ إن المدى المتوسط قد يحمل مخاضا في إطار الانتقال بين السيناريوهات بحيث يمهد الوضع القائم الطريق للسيناريو الرابع “النموذجي” حال تحقق المصالحة الفلسطينية الداخلية ورفع الحصار.

التوصيات:

– العمل على توحيد الموقف الفلسطيني الرسمي والفصائلي من ناحية المطالبة برفع الحصار عن قطاع غزة دون مواربة بعيدا عن انقسام الموقف الضار حاليا.

– إنهاء الانقسام الفلسطيني الداخلي بما يسمح بتشكيل حكومة توافق وطني تتولى حمل هموم ومعاناة أهالي القطاع، وتشكل أساسا صالحا لدفع وتعزيز الموقف المصري الرسمي لجهة فتح معبر رفح ورفع الحصار.

– الدعوة إلى مراجعة الموقف المصري الرسمي،  وضمان تشذيب تطرفات المواقف داخل أجهزة الدولة العميقة التي كانت تعمل ضمن دوائر ومصالح النظام القديم، بما يؤدي إلى رفع الحصار وإنهاء معاناة أهالي القطاع في أقرب وقت ممكن.

– الدفع باتجاه بلورة موقف عربي وإسلامي وإنساني قوي لكشف الاحتلال الإسرائيلي وممارساته ومحاصرة سياسته العنصرية تجاه غزة دولياً، وإسناد أهالي القطاع ودعم مطلبهم العادل بشأن إنهاء المعاناة ورفع الحصار.

* يتقدم مركز الزيتونة للأستاذ مؤمن بسيسو بخالص الشكر على كتابته النص الأساسي الذي اعتمد عليه هذا التقدير.

مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 10/11/2012